عاجل
0020
moasem
sum
003
004
006
007
008
Bash
Hofa
Diamondd
previous arrow
next arrow

الخشمان يكتب: القرار الجمركي الأمريكي الجديد وتداعياته على الأردن: قراءة استراتيجية في توازن المصالح وتحديات السيادة الاقتصادية

وكالة الناس

بقلم: النائب الكابتن زهير محمد الخشمان

في الثاني من نيسان 2025، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من البيت الأبيض قراره التنفيذي رقم 14256، الذي ينص على فرض تعريفات جمركية متبادلة تبدأ بنسبة 10% على كافة الواردات إلى الولايات المتحدة، وترتفع إلى ما يصل إلى 49% على واردات من دول محددة، اعتبارًا من التاسع من نيسان. هذا القرار، الذي جاء تحت عنوان “الحماية العادلة”، لا يُمكن عزله عن سياق أوسع يتمثل في تصاعد التيارات الاقتصادية القومية داخل الولايات المتحدة، وتحول التجارة إلى أداة مركزية لإعادة صياغة علاقاتها الدولية.

 

فبينما نصّ القرار على فرض تعريفات جمركية تبدأ بنسبة 10% على جميع الواردات اعتبارًا من 5 أبريل وتصل إلى 34% على واردات من دول محددة بدءًا من 9 أبريل 2025، فإن دلالاته السياسية لا تقل أهمية عن أرقامه الجمركية، وهو ما يضع الأردن أمام سؤال جوهري: هل ما زالت اتفاقية التجارة الحرة مع واشنطن كافية لحمايتنا من موجات السيادة الاقتصادية الأمريكية المتصاعدة؟

 

التعريفات الجديدة لم تكن مجرد إجراءات فنية تهدف إلى تقويم الميزان التجاري، بل تحمل في طياتها دلالات سياسية تُعيد تشكيل مفهوم الشراكات الاستراتيجية، ومنها الشراكة الأردنية–الأمريكية، التي طالما وُصفت بأنها نموذجية في العالم العربي.

 

ما يُثير القلق أن القرار الأمريكي شمل دولًا عربية عديدة، من بينها الأردن، الذي فُرضت عليه رسوم إضافية بنسبة 20%، رغم ارتباطه باتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة تُعد الأولى من نوعها بين واشنطن ودولة عربية، تم توقيعها عام 2000 ودخلت حيز التنفيذ الكامل عام 2010. هذه الاتفاقية شكّلت لعقود محورًا أساسيًا في سياسة الأردن التصديرية، وخصوصًا في القطاعات الصناعية كثيفة العمالة كصناعة الألبسة، الأسمدة، البلاستيك، والدواء.

 

بلغت قيمة الصادرات الأردنية إلى الولايات المتحدة حوالي 2.88 مليار دولار في عام 2023، وهو ما يمثل 22% من إجمالي صادرات المملكة، وتدعم هذه القطاعات أكثر من 45 ألف فرصة عمل، خاصة في المناطق الصناعية المؤهلة (QIZs). إلا أن هذا القرار الأمريكي المفاجئ يضع الأردن أمام أزمة مركبة تتقاطع فيها الاعتبارات الاقتصادية.

 

الاتفاقية تنص بوضوح على الإعفاء التام من الرسوم الجمركية للسلع الأردنية التي تلتزم بشروط قواعد المنشأ، والتي تقتضي أن يكون ما لا يقل عن 35% من قيمة المنتج من مكونات أردنية أو أمريكية. ولذا، فإن فرض رسوم جديدة يُعد خرقًا قانونيًا لاتفاق مُلزِم، ويستوجب تفعيل آليات الاعتراض وتسوية النزاعات المنصوص عليها.

 

الولايات المتحدة بررت القرار بمبدأ “المعاملة بالمثل”، مدعية أن بعض الدول تفرض قيودًا على صادراتها، ما يبرر الرد بالمثل. إلا أن هذا الادعاء لا ينطبق على الأردن، الذي يُعد من أكثر الاقتصادات انفتاحًا تجاه المنتجات الأمريكية، وفي بعض السنوات فاقت وارداته من الولايات المتحدة صادراته إليها.

 

إدراج الأردن يبدو إما نتيجة مراجعة جماعية غير دقيقة، أو كرد فعل على ثغرات في تطبيق قواعد المنشأ، بسبب اعتماد بعض القطاعات على مدخلات إنتاج من دول فُرضت عليها الرسوم، مثل الصين وتركيا والهند. إلا أن العقاب الجماعي ليس حلًا عادلًا، بل يعكس غلبة منطق القوة على الالتزام القانوني.

 

الجانب الأمريكي بدأ بالفعل في مراجعة الاتفاقيات القديمة، ليس من باب الإلغاء، بل من باب إعادة تفسير البنود وفق مصالحه المتجددة. وهذا ما تؤكده الإجراءات المتزايدة في الجمارك الأمريكية، من حيث التحقق الموسّع، وتعطيل الشحنات، وطلب وثائق تفصيلية إضافية حول المنشأ، وهي إجراءات تندرج تحت ما يسمى بـ”الرقابة الفنية الموسّعة” التي تستخدمها الدول الكبرى لتقليص دخول سلع دول أضعف اقتصاديًا دون الإخلال الصريح بالاتفاقيات.

 

وسط هذا التحول، يبرز دور البرلمان الأردني، المؤسسة الرقابية والتشريعية الفاعلة في مثل هذه الأزمات. المطلوب منا كنواب ليس فقط إصدار بيانات شجب، بل تشكيل لجنة اقتصادية وقانونية خاصة لمتابعة الملف، واستدعاء وزراء الصناعة والتجارة والخارجية والاقتصاد الرقمي لمساءلتهم حول الإجراءات المتخذة لحماية الاقتصاد الوطني.

 

كما يجب على البرلمان أن يدعو إلى جلسة طارئة لبحث تداعيات القرار الأمريكي، وصياغة توصيات عملية تدعم موقف الأردن التفاوضي، وتُظهر وحدة الجبهة الداخلية أمام العالم. من دون هذا الحراك النيابي الجاد، سنكون أمام فراغ تشريعي في لحظة تحتاج إلى تصعيد سياسي هادئ لكنه واضح.

 

لقد كشفت هذه الأزمة بشكل صارخ هشاشة النموذج التصديري الأردني، الذي بُني خلال العقدين الماضيين على أساس اتفاقيات تفضيلية مع شريك تجاري واحد مهيمن. هذا النموذج الذي بدا في لحظات معينة قصة نجاح، تحوّل اليوم إلى عبء استراتيجي، إذ أظهر أنه عرضة للاهتزاز أمام أي تبدل في المزاج السياسي. والأخطر من ذلك أن هذه الهشاشة ليست ناتجة فقط عن طبيعة الاتفاقية أو بنودها، بل عن عمق التبعية البنيوية التي نشأت في قطاعات صناعية بأكملها، والتي باتت تعتمد على السوق الأمريكي كمصدر شبه وحيد للنمو والتوسع، دون تنويع حقيقي في الأسواق أو شركاء التصدير.

 

والواقع أن كثيرًا من الصناعات الأردنية، رغم استفادتها من الامتيازات الجمركية، لم تُحقق تراكمًا إنتاجيًا محليًا حقيقيًا، إذ بقيت تعتمد على مدخلات مستوردة من دول مثل الصين والهند وتركيا، وهي نفسها الدول التي استهدفتها واشنطن في قرارها الجمركي. وبالتالي، فإن أي اختلال بسيط في نسب المكونات أو قواعد المنشأ قد يُخرج المنتج الأردني من مظلة الإعفاء، دون حاجة إلى خرق مباشر للاتفاقية. الأسوأ من ذلك، أن هذا النوع من التبعية جعل الأردن في موقع دفاعي دائم، حيث يُفاجأ بالقرارات بدل أن يكون شريكًا في صياغتها، ويجد نفسه محكومًا برد الفعل بدل الفعل، وهو ما يتنافى مع مفاهيم الشراكة المتكافئة والسيادة الاقتصادية.

 

ولا بد هنا من الإشارة إلى تجارب دول مثل كوريا الجنوبية والمكسيك، واللتين واجهتا قيودًا أمريكية مشابهة رغم ارتباطهما باتفاقيات تجارية طويلة الأمد مع واشنطن. كلا البلدين تبنّى نهجًا مزدوجًا: تعزيز قواعد المنشأ الداخلية، والضغط السياسي عبر مجموعات ضغط داخل الكونغرس الأمريكي لضمان استقرار الاتفاقيات وعدم تأويلها بما يضر بمصالحهما.

 

تبعيات هذه الحالة لا تقف عند حدود التجارة والصناعة، بل تمتد إلى المجال السياسي، حيث تؤثر على استقلال القرار الوطني، وتُقيد قدرة الأردن على المناورة في علاقاته الدولية. إننا لا نتحدث هنا فقط عن أزمة صادرات أو تراجع في الطلبيات، بل عن بنية اقتصادية معرضة للاهتزاز، ومنظومة إنتاج لم تُحصّن نفسها من المخاطر الخارجية. وهذا ما يفرض علينا اليوم، ليس فقط مراجعة سياساتنا التجارية، بل إعادة النظر جذريًا في فلسفة التنمية ذاتها، والخروج من عباءة “التكيّف” إلى استراتيجية “التحكم بالمصير الاقتصادي”، عبر تنويع الشركاء، تعميق المحتوى المحلي، وبناء قدرة تفاوضية حقيقية على الساحة الدولية.

 

ينبغي أن يُطرح هذا الملف في أعلى مستويات التنسيق الدبلوماسي، وأن يُعاد ربطه بالملف السياسي الشامل بين البلدين، بحيث لا يُفصل الاقتصاد عن العلاقات الأمنية والإنسانية والتعليمية، التي تشكل شبكة مصالح متبادلة يمكن للأردن أن يعيد ضبط التوازن من خلالها.

 

إن ما يواجهه الأردن اليوم ليس مجرد قرار جمركي مؤقت، بل اختبار حقيقي لقدرته على حماية سيادته الاقتصادية في عالم تتغير فيه التحالفات والمصالح بسرعة. القرار الأمريكي يكشف بوضوح أن موازين القوة لم تعد تُصاغ بالنيات الطيبة أو التفاهمات الثنائية، بل تُفرض على أساس من يمتلك أدوات الرد والضغط.

 

وعليه، فإن الرد الأردني يجب أن لا يقتصر فقط على المسارات القانونية والدبلوماسية، بل ينبغي أن يشمل خطوات عملية على الأرض، من بينها إعادة النظر في الامتيازات الجمركية التي تُمنح للواردات الأمريكية إلى السوق الأردني، وبما يتوافق مع مبادئ المعاملة بالمثل. ومن هنا، فإن التوجه نحو تحقيق الاعتماد الإنتاجي الكامل، عبر تعميق سلاسل التوريد المحلية، وتوطين المكونات الصناعية، يُشكل خطوة محورية في تحصين الاقتصاد الوطني. فكلما اقترب المنتج الأردني من أن يكون “صُنع في الأردن” بشكل حقيقي وشامل، زادت قدرته على الصمود أمام التقلبات، وازدادت فرصه في أن يكون جزءًا من الأسواق الدولية من موقع القوة لا التبعية. هذا هو التحدي، وهذه هي اللحظة التي يجب أن نرتقي فيها إلى مستوى الحدث، لا دفاعًا عن اتفاقية، بل عن مفهوم أعمق اسمه الكرامة الاقتصادية للدولة الأردنية.