تشكيليون: الفنان ياسر الدويك كان عاشقًا لمدينة القدس بتفاصيلها
وكالة الناس – أقام منتدى الرواد الكبار حفل تأبين للفنان الراحل ياسر الدويك، حيث اشتمل برنامج التأبين، الذي أدارته المستشارة الثقافية للمنتدى القاصة سحر ملص، على العديد من الفقرات. بدأ الحفل بتلاوة آيات من القرآن الكريم، ثم عرض فيلم وثائقي عن الفنان ياسر الدويك.
شارك في الحفل كل من البروفسور مازن عصفور، والفنان والناقد حسين نشوان، وابن الفنان الراحل، الدكتور شادي الدويك، مديرة المنتدى هيفاء البشير، التي قالت نجتمع اليوم من أجل استذكار وقراءة الفاتحة على روح الفنان الكبير ياسر الدويك، صاحب الرسالة السامية التي وهب حياته من أجلها، وهي الدفاع عن الحق، وعلى رأسها قضية فلسطين ومدينة القدس، بمساجدها وحاراتها وبيوتها، ونبض أهلها. وكل ذلك عبر لوحاته وألوانه. وقد حمل رسالة التعليم في وقت سابق، وهي الرسالة الأسمى في الحياة، ليُخرج أجيالاً تخرجت على يديه، تعبر عن القضايا الإنسانية من خلال الفن.
ورغم أن الدويك قد وُلد في مدينة الخليل، إلا أن طفولته كانت في القدس، حيث عانق قباب مساجدها ورسم في قلبه عشقاً لدروبها، ليظل ذلك محفورًا في ذاكرته ويخلده في لوحاته. وعندما انتقل إلى الأردن، وتنقل بعدها في العديد من البلدان طلبًا للعلم، ترك بصمات لا تُنسى في كل موقع تواجد فيه، سواء في الفن أو الفكر أو العطاء. لقد فقدنا في الوسط الفني، وفي الأردن والعالم العربي، إنسانًا وفنانًا عظيمًا نذر حياته من أجل الإنسانية والقضية الفلسطينية، متخذًا من اللون محرابًا ليضيء الدروب ويعرّف بالقضايا.
وتابعت البشير كان الراحل أيضًا أحد أعضاء اللجنة الفنية في منتدى الرواد الكبار، وترأس اللجنة لعدة سنوات. واليوم، برحيله، فقدنا قامة كبيرة في عالم الفن. نسأل الله أن يجعل مأواه جنات النعيم. ولا يسعني في الختام إلا أن أقدم أحر التعازي لعائلته وذويه وأصدقائه من الفنانين وجميع محبيه. تغمد الله الفقيد بواسع رحمته.
من جانبه، قال البروفيسور مازن عصفور إن الفنان الراحل ياسر الدويك يعد من أبرز الشخصيات التي شكلت جزءًا من الحركة الفنية الأردنية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. فقد قدم هذا الفنان العديد من الإسهامات التي أثرت في الثقافة الفنية المحلية، وكان له دور كبير في تشكيل البصمة الفنية المميزة التي نراها اليوم في الساحة الفنية الأردنية.
وأشار عصفور إلى أن الفنان الدويك ينحدر من جيل الفنانين الذين تخرجوا من مدرسة بغداد، وهي إحدى المدارس الفنية التي كانت لها تأثيرات بارزة على الفن العربي بشكل عام، حيث التحق بها في أوائل السبعينات. وهؤلاء الفنانون شكلوا جزءًا من موجة فنية جديدة في العالم العربي، حيث مزجت تأثيرات متنوعة من المدارس الفنية المصرية والتركية والإيطالية، ونجحوا في تشكيل هوية فنية أردنية متميزة.
كما تحدث عصفور عن أبرز سمات تجربة الفنان الدويك وهي انه يلتزم بمفهوم المكان، وبخاصة الأماكن المقدسة في تعبيره الفني عن قضيته الفلسطينية. كانت أعماله محمَّلة برمزية قوية، وخاصة في لوحاته التي تناولت القدس والصراع العربي الاسرائيلي . وكانت قدرته الفائقة في فنون الغرافيك والطباعة والحفر أحد العوامل التي ساعدته في إضافة لمسات من العراقة والعبق التاريخي إلى أعماله الرمزية، مما جعلها تنبض بالحياة والتاريخ في آن واحد.
من جانبه، قال الناقد حسين نشوان إن القدس لم تكن بالنسبة للفنان ياسر الدويك، المولود في الخليل قبل النكبة بـ 8 سنوات (عام 1940)، مجرد مكان لذكريات الطفولة التي تعلم فيها أبجديات الحرف واللون، بل ظلت الجنة والفردوس المفقودين اللذين يتوق للإقامة فيهما عبر فضاء اللوحة، مستعيدًا تفاصيلها، وكل حجر فيها، وشجرة ونافذة وباب وحارة وبيت.
فالقدس بالنسبة إلى الدويك ليست مكانًا فحسب، وإنما هي بوصلة تحدد اتجاه فلسطين، وتختزل التاريخ والجغرافيا والنضال والمأساة. وهو يتخيل القدس التي يستعيدها في لوحاته بعين العاشق، وقلب المشتاق، وضمير المحب، لتكون القدس موضوعه وهاجسه ووجعه، كما هي حلمه، لافتا إلى أن الدويك كان يذهب مع بزوع الشمس إلى المدرسة، وكان يخترق السوق بألوانه وروائحه، مرورًا بقبة الصخرة التي تسقط عليها الشمس، وأدراجها وجدرانها وأقواسها ونوافذها المزخرفة، ليعود في الرحلة نفسها وهو يخزن الأشكال والألوان التي تسحره. وفي باحة الحرم كان يراجع دروسه، حيث يرتحل فيها مع التاريخ، فيأخذه المكان إلى حكايات عميقة في زمان المكان.
واشار نشوان إلى أن الدويك كان مفتونًا بشوارع المدينة وأسواقها وقبابها وآذنها التي تتنوع بثراء الهندسة الأموية والمملوكية والعثمانية بأقواسها وقبابها وزخرفتها وفسيفسائها، وحياتها الشعبية، وتحديدا الفلاحات واللواتي يأتين من القرى المجاورة لبيع محاصيلهن بالزي الشعبي المزركش الذي يتماهى مع ألوان السوق، وتشبعت ذاكرته بموسيقى ألوانهن وإيقاعه الذي تأثر فيها بمدرسيه العراقيين.
ووخلص إلى أن أعمال الدويك تنوعت بين الرسم والحفر، يميل إلى المقاطع المعمارية داخل الدائرة، أو المشاهد البانورامية للمدينة التي تحتضنها الطبيعة، وتتميز أعمال الدويك بالتناسق الهندسي بين الوحدات والعناصر في سطح اللوحة، وتنحصر ألوانه في مثلث لوني يرمز إلى الأرض والقداسة والخصب، فالسماء الزرقاء الصافية، والأشجار الخضراء، والعمارة بألوانها الترابية التي تمنح المكان تناغمًا وتجانسا مع الطبيعة وقدسية المكان.
وفي ختام التأبين، شكر الدكتور شادي الدويك، ابن الفنان ياسر الدويك، كل المنظمين والمشاركين في التأبين قائلا: نلتقي لنحي ذكرى فنان كان يمزج الحب والعشق مع الألوان، وكان يهوى العزف بريشته على جدار الصمت بأجمل الألحان. اليوم نستذكره ونرى الدمعة والبسمة معًا على وجه الزمان؛ دمعة في كل يوم بعد الفراق، وبسمة في كل نسمة هبت تحمل ذكراه. لقد تميز والدي الفنان ياسر الدويك بسخاء العطاء، فعلى مدى أربعة وثمانين عامًا، لم يبخل أبدًا على صديق بنصيحة، أو على ابن بحنان. كمعلم، كان طلابه أبنائه، وأصدقاؤه كانوا إخوانه.
وأشار شادي إلى أن القدس كانت تتربع في قلب والدي، وكان يعشقها ويعشق عروبتها. كان يرسمها ثم يرسم البحر أو عبق الفجر، وما يلبث حتى يعود إلى شوارعها وقبابها ومساجدها وكنائسها، فيرسم أحجارها وكأنه يعرفها، مبينا أن الفنان، مثل الملحن والشاعر، هو رمز للإبداع، ومواهب يجسد من خلالها كل معاناته وأفراحه. لكن إذا حمل أحد منهم قضية يصبح من الثوار يدافع بريشته أو لحنه عنها فما بالك بمن كانت مملكة السماء قضيته وعشقه محفورة في وجدانه.
خلص شادي إلى أن هذه المثالية تجسدت عند والدي في حمل ثقيل من القيم والمبادئ، حملها معه في رحلته من ميلاده حتى آخر يوم في حياته. لم تثقل أبدًا كاهله، ولم يشتكِ منها حتى في أصعب أوقاته، كأنها نقوش وزخارف طرزها في ذاته. ياسر الدويك، الفنان الإنسان، قد شد رحاله ورحل، لكن إرثه من الأعمال سيبقيه حاضرا، خالدا في صفحات التاريخ، عبر قرون وقرون من الأزمان.