د . يوسف العجلوني يكتب .. “كله بفضلك يا أبي “
كتب. د . يوسف العجلوني
رئيس جمعية أطباء الجهاز الهضمي والكبد الأردنية
“كله بفضلك” هي جملة جميلة تحمل شعوراً عميقاً يوزن بماء العينين، وتستحق مقالاً يُكتَب بماء الذهب، وهي تعني الكثير للجميع، فهي تنعش القلوب وتُسعد النفوس إذ أنها تعبر عن الشكر والاحترام والتقدير والعرفان والمحبة والقرب، وهذا لا يتعارض مع إيمان الإنسان بأن كل ما يحصل عليه هو من فضل الله الذي يرسل له من يوصل له هذا الفضل، والذي من المتوقع أن يكون الأب أو الأخ أو الزوج.
حُب الأب لابنه يتجاوز حدود الكلمات، ويعبّر عنه بالأفعال والتضحيات والعطاء الذي لا ينضب، ولا شيء يضاهي حب الأب لابنه، فهو الذي يحميه ويدعمه ويقف بجانبه في جميع الأوقات، ويمنحه الحياة والرضا والأمان، ويعطف عليه، ويرشده ويساعده في جميع المجالات، ويجعله يكبر بثقة، ويزوده بالإيمان في قدراته وإمكانياته، ويعلمه الحب والتسامح والتعاون والإنجازات في الحياة، ويمنحه القوة والصمود في وجه التحديات، ويمدّه بالعزيمة والإصرار على تحقيق أحلامه.الأب يمنح ابنه الحرية والاستقلالية، وفي الوقت نفسه يقف بجانبه بكل المعاني، بحضوره وغيابه، وهمه الاول هو العلو والتطور لابنه، يرافقه في محطات الحياة، ويكون دائماً له الدرع الواقي، واليد الممدودة التي تحمل الخير والكرم.
الأب له دور كبير في توجيه الحياة الأسرية، وهو القائد والقدوة والمثل الأعلى، ووجوده يحقق للأسرة التوازن والأمن والاستقرار المادي والنفسي والاجتماعي الذي يستمر مدى الحياة، وهو المرشد والناصح، هو الذي يستخدم بعض الشدة والحزم بحذر إلى جانب الرفق والتسامح والإيثار والتضحية، وإذا اضطر الأب أن يغيب عن البيت، يبقى حاضراً بتفكيره ومحبته.
الأب هو ذلك الإنسان العظيم الذي يقوم بكل ما هو خير، ويُبعد عن أولاده كل ما هو شر، ويبقى هو السند، وأولاده أغلى عليه من نفسه، ولا يوجد حب أصدق من حبه، ولا يغني عنه أحد. ولا يحل محله أحد، يتحمل الأعباء، ويتكأ عليه الجميع، يتعب ليلاً ونهاراً، ولا ينتظر إلا قليلاً من الاحترام والتقدير والاعتراف بوجوده. حلمه دائماً أن يرى أبنائه في المراتب المتقدمة وأحسن منه.
الأب يعطيك اسمه وقلبه وحياته، ويهمه فقط تحقيق ما أنت تحتاجه. بغياب الأب، يكون كل شيء صعباً، وبوجوده يكون كل شيء مريحاً وآمناً. الأب يحرم نفسه من أشياء كثيرة ليعطيها لأولاده، يأكل بعد أن يشبعوا، ويحيا ويموت وهو معتزُ بنجاحهم.
الأب هو ذلك الرجل البسيط الفقير، الذي لا يشتري الملابس الباهضة، ولا يجري وراء الكماليات، في حين يغدق على أولاده ليحقق كل أمنياتهم. همه الأول والأخير عدم اشعارهم بأي نقص، يعيش بمستوى مختلف عن أولاده، ويوفر لهم كل الاحتياجات، ويقلل على نفسه، ويقدم أسرته على نفسه دائماً في كل شيء، فيظهر الاختلاف الكبير في المظهر الخارجي بين الأولاد والزوجة والأب، ورؤيته وشعوره هنا أنه قد لبى احتياجاته وراحته وسعادته من خلال أسرته، وذلك عندما يرى السعادة تغمر عيونهم، ويسمع منهم كلمات الامتنان.
يتألم الأب في حالات مختلفة: عند عجزه عن تأمين لقمة العيش أو أي من رغبات أولاده، وعندما يمرض أحد أبنائه، ويتألم عندما يُزوج بناتِه بسبب شعوره بالفراق والبعد، وكم يتألم إذا لاحظ جحود أو عقوق منهم. عندما تشاهد الأب يبكي، فاعلم أنه قد وصل إلى مرحلة قصوى من الألم والأسى وقلة الحيلة، وهذا يعني أنه قد استنفذ كل ما لديه من طاقة في التحمل. والدموع هنا لا تخرج من مقلة العين، ولكنها تخرج من القلب.
لا يمكن أن يشعر بقيمة الأب بالمعنى الصحيح إلّا من عاش في بيتٍ بلا أب، لأنّه واقعياً شعر بمقدار النقص والفراغ الذي يتركه الأب في كل مجالات الحياة العاطفية والاجتماعية، وخصوصاً عندما يحتاج لموقف دعم من الأب ولا يجده.
يوماً ما لن تجد والدك بجانبك، وستتفاجأ برحيله دون عودة، وستردد حينها بحسرة وندامة: “والدي أين أنت؟”. والواقع أن هذا الرجل العظيم الذي أوصلك لهذا المجد قد غادر، وبقي اسمه وخيره يعطيك عنواناً وطريقاً. الآن فقط ستعرف الأعباءَ والمعاناة والهم الذي كان يحمله عنك، عندئذٍ لن تستطيع أن تتحدث إليه أو تراه، لن يبقَ لك مجالاً لتعبّر له عن شكرك وامتنانك لما قدمه لك، وأكثر بكثير مما قدمه لنفسه، لم ينتظر لتعترف له بفضله عليك وحبه لك، ولا حتى لتعبر عن اشتياقك وتقديرك له.
ألم الفراق والشوق للأب يزيد مع الوقت ومع الكبر في السن، ولن تشعر يوماً بالأمان بعده، ولن يبقَ أحد آخر يسد مكانه، ولن يهمك المال ولا الجاه حينها، وسوف تتأكد أنه انكسر ظهرك، ولن تعرف لمن تشكي همك، لن تستطع النوم بعمق، سوف تتمنى أن تراه أو تكلمه حتى بالحلم، صوته سوف يبقى باُذنيك، سوف يبقى ظله يتابعك وتشعر به، لن تقتنع يوماً أنه ذهب بلا رجعة، لأن ذلك سيشعرك بأن الحياة سخيفة جداً، سوف تبكي لمواقف أبكت والدك، سوف تشعر بقوة عاطفته بداخلك، الآن سوف تعرف حبه وخوفه العميق عليك، قد رحل الذي كان يتألم ويسهر اليالي إذا مرضت أو غبت، أو إذا أزعجك أبسط شيء. ستحاول السير في الحياة بنفس طريقته، ولكنك لن تستطع أن تكون مثله، أو أن تتحمل ما تحمله. سوف تشعر دائماً وكأنما قد توفي بالأمس، ولا زلت تشعر بدفء يديه، وستجد بنفسك عزته ومنعته، وممكن أن تصل إلى مرحلة لن تستطع أن تتحمل أكثر.
عندما تستوعب أن أباك قد رحل، ولم يبقَ مجال لتظهر له محبتك أو حتى لتعتذر منه على خطأ بدر منك، أو أنك قد قصرت في خدمته يوماً ما، سوف يقلقك ويؤلمك ذلك، أو أنك قد كنت من الممكن سبباً في غضبه، فاليوم لن ينفع الندم، ولن يكون هناك مجالاً لكي تطلب منه أن يسامحك. الآن لم يبق مكان لأي كلمات أو أفعال تعبر عما في داخلك من شعور لوالدك. ولن تستطع أن تصف مشاعرك نحو فراقه، الآن سوف تعرف أنها انتهت المرحلة المشرقة من حياتك، والآن سوف تشعر أنك تائه، ولم يعد هناك من يمثلك، وسيقل شعورك بالأمان، وستشعر بأن الطمأنينة ضاعت وانعدمت السكينة، وستشعر بالألم الفضيع وفقدان الأمل.
الأب ليس مجرد كلمة تُقال، الأب أعباء كبيرة، وأفعال لا يعرفها إلا من فقدها. أبي شعوري بك ينير دربي، ويسهل طريقي، أنت ما زلت موجوداً في كل أمور حياتي ووجداني، أحب احترام الناس وتقديرهم لي بسببك، وأحب كل الأماكن التي أحببتها، وأحب الأطعمة التي كنت تحبها، أحب القوة والعزة والكرم، لأنك أنت من علمني أياها، لقد جعلتني أرفع رأسي عالياً بكل المواقف، أنني أفتخر بك وبكل ما اتصفت به من قوة وشجاعة وحنكة وعزة وكرم ودماثة، وأفتخر إني ابنك، ولا شيء يستحق أن أتنازل له من بعدك، وسأبقى اقتدي بك وأسير على خطاك ونهجك، واطلب رضاك، وأعمل ما أستطيع لأكون باراً بك، ولن أنسَ شيئأ أوصيتني به. رحمك الله يا أبي، وانتظر لقائك في الحياة الآخرة.
الكلام يؤثر بشكل كبير على النفس، ويعبر عما في القلب، ويصف الشعور. ويختلف وقع الكلمة باختلاف الأشخاص والموقف والمكان والطريقة والظروف المصاحبة، فهناك كلام جميل وراقي يبعث في النفس السعادة والفرح، حيث يكون فيه التشجيع والدعم النفسي والحث على النجاح والتفوق، والمواساة عند الأحزان، والتعبير عن الحب والمودة والملاطفة، وفيه الإحسان والبر والعزة، وهذا هو الكلام الإيجابي. وهنالك الكلام السلبي الذي يؤذي المشاعر ويجرح النفس والروح، ويتسبب أحياناً في إصابة الإنسان بأمراض نفسية وعضوية، مثل النقد الحاد الذي ليس له داعٍ، أو المقارنة بالآخرين والتوبيخ؛ أو استخدام الكلمات التي تحبط وتؤدي إلى اليأس، واستخدام كلمات التسفيه واثبات القوة والسلطة والتنمر والظلم.
هنالك كلام ذو حدين، يمكن أن ترفع به من شأن الإنسان وتغير مسار حياته، ومن الممكن أيضاً أن تحط من قدره، وتقتل عزيمته وتسبب له الإحباط واليأس. لذلك يجب على كل إنسان أن ينتقي كلامه ويفكر فيه قبل أن يخرجه من فمه، فالكلمة كالسكين إما أن تجرح وتؤذي، وإما أن تنظف الجروح وتكون العلاج.
الكلام الطيب يجب أن يكون الأساس والمعتاد، لأن له مفعول كالسحر، فهو يطرب الأذن، ويريح القلب، ويجلب الود والقرب، ويسر النفس، ولا يكلف جهداً ولا مالاً، ويجعلنا نحلق في الأفق، ويعزز ثقتنا بأنفسنا، ويعطينا القوة والإرادة لبلوغ أهدافنا وتحقيق طموحاتنا. الكلام الطيب يحيي أنفس وأرواح ممكن أن تكون قد شارفت على الانتهاء. وعكس ذلك الكلام السلبي يجعلنا نشعر بالبؤس، ويفقدنا القدرة في كل شيء، ويمنعنا من القيام بأبسط الأمور.
رُبّ كلمة تقال من غير قصد تفتح جراحاً عميقة بعد أن بلغت درجة كبيرة من الالتئام، وسكن وجعها المؤلم. نحن لا نعلم كل شيء في نفوس الآخرين الذين أمامنا، ولا نعلم ظروفهم، وكل ما يظهر لنا ليس إلا قشور وسطحيات، ولا نعلم كم عانوا في الحياة، وكم تحملوا ليكونوا واقفين وصامدين.
لماذا نُخرج من أفواهنا كلاماً يؤذي الآخرين؟ الأفضل والأولى أن نخرج كلاماً يدعمهم ويقوي أنفسهم، ويمنع انكسار قلوبهم، ويساعدهم على الاستمرار ومصارعة الحياة، ولا شك أننا بالكلام الجميل نعين بعضنا البعض على مكابدة وتحمل الكثير من مطبات ومصائب الحياة الفانية.
أكتب إليك يا أبي ودموعي على خدي،كم اشتقت إليك، وأتمنى لو أستطيع تقبيل رأسك وقدميك. اشتقت لعينيك التي تملأها المحبة والإعجاب والفخر والإنجاز عندما كنت تنظر إلي، اشتقت لابتسامتك، اشتقت لحديثك الذي ليس بعده حديث، افتقدك يا أبي بكل تفاصيل حياتي، افتقدك في كل لحظة فرح كنت تتمناها لي. لا يوجد يا أبي ألم أشد من فراقك، ألم لا تصفه كلمات ولا دموع ولا حزن.
أبي: إن كل مقام وصلت إليه، وكل شيء حصلت عليه، هو كان بفضلك، ولازلت أعيش بخيرك وعزك الذي لن ينتهي بأمر الله، وسوف أنقل فضلك لأبنائي. أنا طول عمري أعترف بتضحياتك ومعاناتك من أجلي، وكم أحب أن أسمع من أولادي الكلمات التي لازلت أتمنى لو أنني قلتها لك. عرفت يا أبي من حبي لأولادي كمية الحب الذي كنت تكنه لي. كثيرةٌ يا أبي الأشياء التي عملتها من أجلي، وكنت أتوقع أنه ليس لها داعٍ، ولكنني وجدتها تُظهر حنكتك وحكمتك، ومحبتك لي واهتمامك بي وخوفك علي، وكأنك كنت تعرف ما سوف يحصل، أحبك يا أبي، ولا أخاف الموت من بعدك، لأنه سوف يجمعني بك، وسوف ينقلني إلى المكان الذي أنت فيه في الدار الآخرة.
رحمك الله يا أبي.