د. يوسف العجلوني يكتب .. آخر محطات العمر
كتب. د. يوسف العجلوني
الحياة متنوعة: فيها الراحة والمتعة والفرح، وفيها المكابدة والمصائب والأحزان، دوارة ولها ألوانها المختلفة ومحطاتها المتغيرة. نكبر ويموت الأحبة والأقرباء والأعزاء، لحظات صعبة نمر بها تجعلنا نتوقف لنفكر بماهية ما يحدث، وكيف تسير هذه الحياة. هي رحلة وستنتهي، ويأتي الموت بنهج غير معروف ولا يستثني أحداً.
قطار الحياة يمضي دون توقف، نخرج من محطة وندخل بأخرى، ويمضي العمر، وفي محطة ما تتغير الناس وكل شيء من حولنا، ويتغير مفهومنا عن الحياة، ولابد من وصول المحطة الأخيرة، والجميع سوف يترك القطار حتماً. بعضنا يغادر الحياة مبكراً، وآخر يبقى في القطار حيثما يسير، وينتظر بأمل المحطة القادمة، وآخر يتفاعل مع الحياة ويسعى جاهداً ليجعل لرحلته معنىً وهدف.
الركوب في قطار الحياة إجباري، وكذلك النزول منه، وقد يكون في أي وقت. وأحياناً يصعب الانتباه والتحضير للمحطات التالية ولكيفية دخولها أو الخروج منها، وحينما يحين وقت النزول أو الوصول لآخر محطة، يكون لابد من المغادرة، وفي معظم الأحيان، لا يكون وقت النزول معروفاً، ولا المكان ولا كيفية النزول.
محطة الطفولة: ندخل إليها دون اختيار منا، في أي مقطورة سنركب، أو مع من. هذه المحطة جمالها ويسرها يعتمد على المكان والزمان والعائلة، ليس فيها تفكير ولا قلق من شيء، تستطيع أن تفعل ما تريد، وليس عليك عتب ولا لوم. القلوب صافية بيضاء، كل معضلة يحلها الآباء، نستيقظ في كلّ صباحٍ على صوت الوالدين، ثمّ ننطلق إلى المدرسة، لنعود أخيراً إلى المنزل من جديد، فنتناول الطعام، ثمّ نراجع دروسنا، ونلعب بما يفرحنا، ونذهب إلى منزل أجدادنا ونقضي أجمل الأوقات، ونأكل فقط الطعام اللذيذ والحلوى التي نحب.
محطة الحياة الجامعية: وتكون مليئة بالكثير من الشغف والجمال والمغامرات والمسؤولية، وإثبات الجدارة التي تضع الشخصية على المحك، فيعتمد الطالب فيها على نفسه، ليتجاوز الضغط الدراسي والوضع المادي، وقطع المسافات، والشوق للأهل. محطة الحياة الجامعية فضاءٌ للتعارف وتبادل الثقافات والبيئات والخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة، وتكوين الصداقات، وممارسة العديد من الأنشطة الثقافية والتعليمية، وهذا ما يجعل الحياة الجامعية جميلة، ويستطيع فيها الطالب أن يوسع مداركه ويزيد من اطّلاعه وقدرته على الحديث والنقاش، والانسجام مع الزملاء. ويكون للطالب فيها حق التعبير عن الرأي في الكثير من الأشياء، وصقل الشخصية، والاندماج الاجتماعي، وتغيير الأفكار نحو الأفضل. الجامعة تعلم فنَّ الحياة وطريق المستقبل، وهي مكانٌ لتحقيق الأحلام والوصول إلى الطموحات. الحياة الجامعية مليئة بكلّ ما هو مفيد ورائع، وتجربة مثيرة وذكريات مليئة بالمعرفة، فسنوات الحياة الجامعية من أجمل ذكريات العمر التي لا تمحوها السنون من الذاكرة مهما طالت. هي فرصة رائعة لإثبات الكثير من التميز والإبداع، وهذه المحطة المهمة هي خطوة مصيرية تغير من سير قطار الحياة نحو الأفضل للتعامل مع المتغيرات والمستقبل، ورسم الأهداف وتحقيق الأحلام.
محطة ما بعد التخرج من الجامعة أو الكلية، وتبدأ بالفرحة العظيمة والسعي للوظيفة أو العمل الخاص، وهي مرحلة تميزها القوة والعزيمة، والأمل في البناء والتطور والعطاء والإنجازات، ويكون الطموح خلالها غير محدود، وتبدو الأهداف قريبة. هي محطة تحمل المسؤولية، حيث يتوجب الآن تحمُّل أعباء الحياة، والقيام بواجباتها، ويبدأ فيها النضوج العاطفي، والتفكير بالارتباط والزواج، وبناء أسرة. في هذه المحطة يكون العنفوان والشدة في أعلى مستوياته، وممكن أن يكون التّسرع في اتخاذ القرارات، ويكون الإنسان مستعداً لمواجهة التحديات والعقبات. ومن خلال نافذة هذه المحطة، تستطيع أن ترى المستقبل المهني والوظيفي، وفيها يكون تفرعات كثيرة في طريق المسير: من حق وباطل، وتعب وراحة، ومفاسد ومنكرات، ويكون لك القرار في اختيار الطريق والرفقة التي تفضل.
محطة الزواج: وتبدأ غالباً بالحب والرومانسية والسعادة وكلمات الغزل والعشق، ومن ثم يبدأ كل طرف في فهم الطرف الآخر بوضوح أكثر، ويكون هناك صراعات وخلافات واكتشاف العيوب، ويتمسك كل واحد برأيه نتيجة اختلاف الرغبات، وتزيد المشاكل، إلى أن يصلا إلى التقبل، ومن ثم مرحلة المشاركة والتعاون بالالتزامات المادية واحتياجات الأولاد، ثم تصبح الأسرة أكثر استقراراً، وتستقر الأمور المادية وتزيد المحبة، ويتعامل فيها الزوجان كالأحباب والأصدقاء، ثم تظهر المشاكل الصحية للزوجين، ليحتاج كل طرف منهما لمساندة الآخر والوقوف بجانبه. ثم يليها مرحلة الفهم الجيد، حيث يصل الزوجان إلى فهم بعضهما جيداً، فتزداد السعادة الزوجية في هذه المرحلة مع استقلال الأبناء واعتمادهم على أنفسهم.
محطة الاكتفاء الذاتي: في هذه المحطة يتكون لدى الإنسان شعور من التقدير العالي للذات والثقة الكبيرة بالنفس، ويكون التصالح مع الذات، ويكون هنالك أيضاً إدراك لجميع نقاط القوة والضعف، وفيها يكون الإيمان بالذات وتلبية احتياجات النفس من الداخل، دون إعطاء أهمية للأحداث أو الأشخاص أو الظروف، ويدرك الشخص أنه قادر بنفسه على تنمية مشاعر السعادة والسلام، وتلبية احتياجاته النفسية والعاطفية والمادية بنفسه، والقدرة على الانفتاح على الآخرين والتعامل معهم، والتحرر الكامل من آراء الآخرين أو اتباعهم، أو انتظار موافقتهم، أو لفت انتباههم. ما يميز هذه المحطة هو التوازن والقدرة بسهولة على إنهاء العلاقات السامة والمستنزفة للطاقة، وانتقاء الأشخاص المناسبين. وتكون الشخصية مستقلة وتتسلح بالمبادئ والثوابت، وتكون القناعة عميقة في القدرة على النمو والتطور السريع وتجاوز العقبات المختلفة، وتكون الثقة كاملة بالفكر والمهارات والقدرات.
محطة التسامح: وهي المرحلة التي لا تجد فيها مكاناً للسلبية أو الانتقام أو معاقبة ظالمك، ولكن هذه المحطة هي محطة نقاء النفس والتسامح مع الأخرين، وهذا ما يزيد الإنسان قوة، ونتيقن بأننا مخلوقات ضعيفة، قد نخطئ ونصيب، وفي كل خطأ نتضرع إلى الله ليسامحنا، إذن لنسامح بعضنا ونرضى. ولا تظن أن تسامحك وعفوك عمن أخطأ في حقك يوماً ما كان ضعفاً أو انكساراً أو هزيمةً، بل كان دليلاً على تميزك وبياض قلبك وتميزه بالرحمة. فراحة البال دائماً تتطلب قلباً متسامحاً، وعفواً ومفعماً بالحب، والتسامح يتطلب قلباً قوياً فارغاً من الحقد، وعقلاً كبيراً خالياً من فكرة الانتقام وبقناعة تامة.
محطة زاد التقوى: ويصلها الإنسان في معظم الأحيان عند التقدم بالعمر، عندما يبدأ يشعر بالضعف وقرب الموت، ويقتنع أن الحياة فانية، وسوف يخرج منها كما ولدته أمه، لا يحمل معه جاهاً أو مالاً أو سلطانا،ً ولن يأخذ معه سوى عمله الصالح، وليس له إلا الآخرة التي هي المقر النهائي، وأن هذه الدنيا فانية، هنا يبدأ يستمتع بهذه المحطة، ويفهم وضعها ومعناها، ويتزود منها بالعمل الصالح في كل صغيرة وكبيرة من الأعمال، لتكون معه في الدار الآخرة ليكون قريباً من الله سبحانه وتعالى.
محطة الشيخوخة: وعادةً ًما تدخل فيها الفئة العمرية ما بين الستين والثمانين؛ حيث يصبحون أكثر ميلاً للبقاء في البيت، لفقدانهم الكثير من الأصدقاء والأقرباء بسبب الوفاة، أو انعزالهم بسب التقاعد، وفي هذه المحطة تظهر التجاعيد الجلدية والشعر الأبيض. ويضعف النظر والسمع، وينحني الظهر، وتضعف الذاكرة والقدرات العقلية، وتظهر الأمراض مثل هشاشة العظام والتهاب المفاصل والسكري وارتفاع ضغط الدم وتصلب الأوعية الدموية والشرايين، وتُصبح المثانة أقل مرونة، مما يزيد الحاجة إلى التبول، أو صعوبة في إفراغ المثانة بشكلٍ كامل، أو فقدان السيطرة عليها والإصابة بسلس البول، والإصابة بالإمساك أو عدم السيطرة على الإخراج.
محطة أرذل العمر: وتبدأ عادةً بعد سن الثمانين، ولكن ممكن أن يدخل بها أي إنسان في أي وقت بسبب حادث ما قد يؤدي إلى موت أو تعطيل جزء من الدماغ، وفيها يكون الإنسان عاجزاً تماماً، وبحاجة إلى رعاية كما يحتاج الطفل، وأغلب الناس يُتوَفَّوْن قبل أن يصلوا إلى هذه المحطة، وهي أقسى وأشد المحطات التي يمر بها الإنسان على امتداد حياته، من ناحية الضعف البدني والعقلي، والعظام يصيبها الوهن والهشاشة، وينحني الظهر، وتتآكل المفاصل،ويصبح الجسد مهترئاً ومتهالكاً، وقد تظهر أمراض أخرى مثل الخرف، وعدم القدرة على قضاء الحاجة، في وقت لا يجد الإنسان من يرعاه من فئة أقرب الناس إليه، فأولاده إما انهم قد ماتوا، أو قد بلغ بهم الكبر عتياً، والأحفاد قد تشغلهم حياتهم. ومن يدخل هذه المحطة غالباً لا يعرف أنه دخلها بسبب غياب الوعي والإدراك، وسيكون مزعجاً ومنفراً للآخرين، بسبب العبء النفسي المترتب على العناية به، والرجوع إلى حياة الطفولة في تصرفاته وأفعاله وأقواله، مع عدم القدرة على التحكّم بالبول والبراز، والنسيان حتى يصل إلى حالة لا يعود يعلم شيئاً، ويحتاج إلى من يطعمه، ويسقيه، ويلبسه، ويحمله، ويزيل عنه الأذى، مما يهز مكانته في النفوس. ومن المحزن والموجع والمؤلم أن تجد أباً مقعداً أو أماً عجوزاً عاجزة يتمنون أن يروا أحد أبنائهم، ولا تتحقق هذه الأمنية. ولا أحد يعرف إن كان الدخول في هذه المحطة هو ابتلاء من الله ليكفر به الذنوب والمعاصي، أم أنه انتقام ينتقم الله به من الظالمين.
لا شك أن قطار الحياة سوف يصل للمحطة الأخيرة في وقت مقدر، والموت سيأخذنا جميعاً، إنه يخطف حياتنا ويباغتنا أحياناً دون مقدمات، فتجد نفسك وصلت للمحطة الأخيرة، ولا مفر من ذلك، والمعظم يخاف من هذه المرحلة بدرجات مختلفة، ولكن هل هنالك طريق آخر؟ فمهما وصلنا ومهما طال بنا العمر فإننا بعد ذلك لميتون.
الموت وتوابعه مسألة فيها غموض عميق لم يُفسر بعد، وسوف يبقى الموت أمراً مُحيّراً للعقل الإنساني مهما كان هنالك من نظريات وتطمينات، الموت عالم مجهول، لذلك يخاف منه الكثير من الناسُ ويتفادون أسبابه، ويتوقّعون أنّه مؤلمٌ ومحزن، وأن خروج الرُّوح من الجسد شيء صعب ومعاناة، ولكن من الممكن أن يكون في الموت راحة بالغة، وخلاص من الأعباء والهموم والألم، والحياةُ نفسُها قد تكون مؤلمة أكثر من الموت. والأمر السيء بالموت هو انتظارُه، وليس حدوثه. إن التحرر من شعور الخوف من الموت سوف يؤدي الى قدر كبير من الراحة والطُّمأنينة والثبات، وأحياناً قد تكون الحياةُ نفسُها مؤلمة أكثر من الموت، الذي قد يكون فيه راحة، وانتهاء للشّعور بالمكابدة والألم والمعاناة، في الساعات الأخيرة من دنو الموت، لا يبقى شّعور بالخوف عند الإنسان، ويكون هناك غياب للآلام، لأن الدماغ يفرز هرمون ‘الإندورفينز’ المُضاد للألم، والذي يساعدُ على حجبِ الإدراك في السّاعات الأخيرةِ قبل الموت، فنلاحظ الهدوء والسكينة والقبول على معظم الناس في تلك اللحظات.
مع المرور بالعديد من المحطات، لابد أن نفهم الحياة أكثر وأكثر، ونتأقلم معها، ونكتشف أن الحياة خيط دخان، لا تمنحنا ولا تحقق لنا كل أحلامنا، والكثير من حولنا يتغيرون، وكم من أناس أحببناهم تركوا القطار في إحدى المحطات، ولا زالوا بالذاكرة بكل التفاصيل، وأصواتهم موجودة، ونتألم من بعدهم، ولا زلنا نحبهم، ولا أحد استطاع أن يسد مكانهم، وقضينا معهم أجمل محطات العمر التي رحلت.
هنالك محطات يكون فيها تغير في الاتجاهات والمسارات، فبعد أن كنا متمسكين بهذه المحطة ونقاتل للبقاء بها، كي لا نودع ركابها، نكتشف بأن فراقهم كان هو الأجمل وأفضل ما حدث لنا، وكان قربهم عبئاً كبيراً يثقل صدورنا.
تخطي الصدمات والعثرات والأزمات مهم جداً في الحياة، لكي لا يقف الإنسان عند أول مشكلة تواجهه، بل عليه أن يتعلم أن ما يواجهه ما هو إلا محطات عابرة يجب ألا تترك أي أثر، فلا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس، وكلما كثرت تجاربك، سترى تغيراً جذرياً لأفكارك، فمحطات الحياة تجعل منا أشخاصاً جدداً، لنرى الحياة بنظرة مختلفة. وتتراكم الخبرات، ويتم ترجمتها إلى أفكار وسلوكيات تساعدنا في المرور والاستفادة في المحطات القادمة.
لا يوجد هنالك محطة دائمة، فلا لقاء دائم ولا سعادة أبدية ولا حزن مستمر، وسنوات العمر التي مضت لن تتكرر، وكل ذلك ضمن ما هو مكتوب، فلا تكتئب ولا تيأس، بل واجه واصبر واصمد، أنت قادر أن تحدد فترة وقوفك بمحطة معينة، ودائماً تستطيع تغيير الاتجاه.
وجودك وسعادتك لا يرتبطان بنقطةٍ أو محطة مُحدَّدة، لذلك يجب عدم تأجيل كل شيء وادخاره إلى حين الوصول إلى تلك المحطة، ولا يجوز أن نرهن سعادتنا وحياتنا كلها من أجل هدف قد لا يتحقق.
عِش أيامك كما تريد، ولا تكثر من الاهتمام بما حولك؛ فإن هذا سيكون على حساب نفسك وسعادتك وعمرك، لا تدخر السعادة للغد، بل اعتبر اللحظة هي زمانك ومكانك، لا تخجل من انكساراتك وعثراتك، ارضِِ نفسك بما حصلت عليه من انتصارات، وتذكَّر دائماً أن النجاح الأكبر هو أن تعيش حياتك بالطريقة التي تُحب.
الموت صدمة كبيرة، نستطيع أن نصغرها أو نكبرها مهما كانت المشاعر بالحزن، ولابد أن تخرج المشاعر إلى الواقع. يجب أن يمر وقت ليفيق الأنسان من الصدمة، ولكن لا يجوز التمادي بالحزن حتى لا تفقدون حياتكم وأحبابكم، فهنالك أشخاص آخرون مازالو يحتاجوكم، ويجب أن يكون هنالك قوة في التحمل والمواجهة، فالحياة محطات، ومن كنت تظنه سيرافقك للمحطة الأخيرة، قد يختار وجهة جديدة، ومن كنت تظنه لن يصعد قطار حياتك، أصبح اليوم بالقرب منك. وفي كل محطة يتوقف قطار الحياة تتغير أشياء وتتبدل أشياء، بعضها تتغير حولك وبعضها في داخلك، الجميع يصعد بقطار الحياة، يسير أحياناً ببطئ، وأحياناً بسرعة، وفي طريقه يقف عند محطات كثيرة، وسوف يتوقف القطار يوماً ما عند آخر محطة، وينزل عندها بعض الركاب، ولا أحد يعرف متى.
الموت في جميع الحضارات الإنسانية والأديان هو مفارقة الروح للجسد. والموت والنوم بينهما شبه واتصال، وعند دراسة الصلة والفرق بين الموت والنوم، وُجِد أن كليهما يعبر عن مرحلة معينة من الغياب عن الوعي والإدراك الظاهر. والطب والعلم ميز الموت أنه توقف الدورة الدموية التي لا رجعة فيها، والدماغ لا يستطيع أن يبقى حياً سوى لبضع دقائق عند انقطاع التروية الدموية، وعند موت الدماغ تنتهي الحياة بلا رجعة.
كل إنسان يعلم أنه مهما طال أجله فهو ميت لا محالة، الموت ينتظرنا على مفترق طريق نجهله، معظمنا يتناسى هذه الحقيقة، مع أنها باقية في النفس، ويزداد التفكير فيها مع العمر، والكثير منا يحذر طرق باب الحديث عن الموت، لأن الفكر الذي تربينا عليه لا يحبذ ذكر الموت، ففي ذلك استحضار له.
الحقيقة أننا نقترب من الموت أكثر مع كلّ يوم يمضي من حياتنا وتقدمنا بالسن، وذلك يشكّل لنا صراعاً داخلياً نعيشه باستمرار، كلما واجهنا مرضاً أو موت قريب، ونسأل أنفسنا متى يحين دورنا وكيف؟ وما هي إلا أيام ويرجع الأمل أنه ما زال لنا وقت في هذه الحياة، إلى أن يأتي يوم ويكون دورنا فعلاً وحقيقة، وتمر جميع الأحداث في ذاكرتنا من فرح وحزن وأمل، ولكن هذه المرة نحن من سوف يمضي دون عودة وينتهي وجودنا في هذه الحياة.
هنالك علامات تظهر على الإنسان تُشير إلى أن المحطة القادمة هي آخر محطات العمر مثل: فقدان الشهية للطعام، وعدم القدرة على آداء النشاطات، وزيادة عدد ساعات النوم، والرغبة في الوحدة والعزلة، وضعف العضلات، والشعور بالتعب الشديد، وشحوب الجلد، وقلة الإحساس بالبرد، وتورم القدمين واليدين، وحدوث إرتباك وتشوُّش ذهني بشكل متقطع، وقد تحدث بعض الهلوسات. وفي اللحظات الأخيرة يفقد الإنسان القدرة على فتح عينيه أو إغلاقهما كلياً، وعندما يتوقف قطار الحياة في المحطة الأخيرة، تتوقف أجهزة الجسم مثل الكلى والقلب والرئة والدماغ عن العمل، وينتهي كل شيء.
يجب علينا ألا نجعل التفكير في الموت يقلل من اهتمامنا بالحياة، وأن نفكر بالموت على أنه الحقيقة الحتمية، وأن ننتظر ذلك اليوم بإيجابية، وأن نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبداً، ونستمتع في كل المحطات، فقطار الحياة يسير باستمرار دون توقف، ولا يهمه من ركب فيه أو نزل منه، فالحياة لا تختفي من الوجود، والقطار يسير بين المحطات، والركاب هم من يتغير، من جيل إلى جيل، ومن الآباء إلى الأبناء.
الموت أمر طبيعي، ويتوجّب علينا تقبّل ذلك اعتماداً على قدراتنا الفكرية والثقافية، والحالة النفسية والدينية، والقوة الإيمانية، والبيئة التي نعيشها، ممكن أن يكون الموت سهلاً ومريحاً، وتبدو هذه الراحة حينما نرى الموتى لا يظهر عليهم حركة ولا قلق، وليس لديهم مسؤوليات أو واجبات، ويتركون كل الهم والألم وعسر الحياة. وهنالك من يعتبر الموت ألماً شديداً بسبب فراق الأهل والأحبة، وأنه من أعظم الشدائد التي تنزل بالإنسان في الدنيا.
لكل محطة في رحلة قطار الحياة جمالها، وخاصة عندما يتم التعامل معها بالطريقة الصحيحة، والمهم في كل محطة أن لا ننتظر المحطة القادمة على الإطلاق، بل أن نعيشها بكل لحظاتها. وفي جميع المحطات يجب أن يكون الإنسان مستعداً للتغيير، وانتهاء الرحلة، لأنه لا يعلم متى وكيف وبأي أرض سيموت؟ ومع أنه ممكن أن يكون هنالك علامات في طريق قطار العمر تنذر بالوصول إلى آخر محطة مثل: التقدم بالعمر والمرض، ولكن لا أحد يعرف بدقة متى ستكون النهاية وكيف؟ براحة أم بألم؟ وهل سيكون الفراق وقتياً أم نهائياً؟