“معلش” وائل الدحدوح دخلت التاريخ في أبلغ استخدام لها!
وكالة الناس – هي أعظم «معلِهش» قيلت في التاريخ؛ فللمفردة استخدامات كثيرة، بحسب السياق، تبدأ من الاعتذار البريء وتنتهي بالتحدي، لكن «معلِهش» هذه المرة حملت خليطاً من المعاني، فالحادث جلل، والمصاب عظيم، والقائل هو وائل الدحدوح، مدير مكتب قناة «الجزيرة» في قطاع غزة!
التقيت بوائل في الدوحة، كان عائداً من رحلة الحج، ورغم أنها كانت المرة الأولى، التي التقيه فيها وجهاً لوجه، إلا أنني لم أشعر أنه اللقاء الأول، بدا لي «معرفة قديمة» وأننا التقينا قبل ذلك عشرات المرات، فخير الناس من يألف ويؤلف، وهو في الواقع، كما هو على الشاشة، تشعر أنه مسكون بالنبل، ومعجون بحسن الخلق، وفي كل مرة أشاهده على الشاشة أتذكر صديقي الصحافي محمد منير، الذي كان يشبهه شكلاً ولوناً، والذي كان ابن بلد جدع، وراح ضحية شجاعته، عندما هاجم سياسات أهل الحكم، بعد الانقلاب العسكري مع يساريته، ودفع الثمن باعتقاله، وقد خرج من المعتقل حاملاً لفيروس كورونا اللعين، ليتوفى بعد ذلك بأيام!
يقولون إن الشاشة تحب وتكره، لكنها في حالة وائل الدحدوح في تعادل، ومع تعادلها فإنها عاشقة له، لأنها لم تظهره على غير حقيقته سلباً أو ايجاباً، فيكفي أن تظهره كما هو، ليكون هذا كافيا لإحساس المشاهد أنه يعرفه منذ زمن طويل، وأن بينهما صداقة «وعشرة عمر» وعندما تتعرض غزة للقصف الإسرائيلي، يكون وائل الدحدوح، هو ضيف البيوت المحبوب، ينامون على وجوده ويستيقظون فإذا به أمامهم، فيشغلهم حاله، متى ينام الرجل، الذي يبدو يقظاً على مدار الساعة، فيشغل المشاهدين به، انشغالهم بما يقدم من أخبار، وما تتعرض له غزة من قصف لا يميز بين بشر وحجر، وبين مقاومة ومواطن عادي، وبين مستشفى ومنزل!
ووائل لا يملك صوتاً زاعقا، فهو صاحب نبرة هادئة، تنقل الوقائع، وتلم بما يجري، وتجسد الحاصل على الأرض على قسوته، فيبدو صوته هذا أقوى من القصف، وأقوى من صوت الرصاص، إنه فضل الله الذي منحه الله لهذا الهيلمان الجسدي، فمع بسطة في الجسم فإنه يملك هذا الصوت الهادئ الدافئ، وكأنه خلق ليعبر عن محنة فلسطين، منذ النكبة وإلى الآن، وهذا الطلة الحميمية التي تشعرك أنك تشاهد أخا أو صديقا، تكتشف من فيديو أذيع قبل أيام مع أسرته أنه يملك صوتاً جميلاً في الغناء!
عودة وائل وأقدار الله
عاد وائل إلى غزة قبل أيام من بداية الحرب، حيث فوجئت أنه لم يكن قد عاد بعد أن التقينا، فقد تلقيت اتصالاً من القاهرة، يفيد أن وائل تم توقيفه في مطار القاهرة، الذي غادر منه في رحلة الحج، لا قواعد تحكم أداء القوم، ذكر لي المصدر خط سيره خلال الفترة التي أعقبت أداء مناسك الحج، ربما ليؤكد صحة المعلومة؛ أنه غادر من السعودية الى الدوحة، وأنه قادم من الأردن، وأنه أجرى عملية جراحية في الخارج، وقد بات ليلته في المطار، قبل اخلاء سبيله وسفره إلى غزة، وبعد أيام تندلع الأحداث وكأنه لا يمكن لخبر غزة أن يكون دونه، وهي عموماً أقدار الله!
فقد أخبرني المصدر أنه في عودته كانت معه زوجته، وأنها الآن لدى أقرباء لها في القاهرة، بعد احتجازه، فماذا لو تأخرت في القاهرة، أو تأخرت في السفر الى غزة، هي أقدار الله حتماً، وقد قدر لها أن تستشهد كأي شهيد فلسطيني، دافعة ضريبة الشرف كواحدة من أبناء شعب فلسطين المتمسك بأرضه، والتي تنسف ادعاءات روج لها اعلام الانبطاح العربي عن الفلسطيني، الذي باع أرضه للمحتل!
زلزلت قلوبنا ونحن نسمع خبر استشهاد زوجة وائل الدحدوح وابنه وابنته وحفيده، وإذ بنا أمام مشهد من مشاهد الصمود الفلسطيني، فنحن نعلم أنهم شعب الجبارين، لكن وائل يبدو كشاعر حالم، حتى وهو يرد على أحد الحاضرين على مائدة الغداء التي دعا لها أحد الزملاء على شرفه لماذا لا تغادر غزة يا وائل: «أروح وين يا زلمة»؟ بدا السؤال مفاجأة، وكأنه لا يجوز أن يطرح من الأساس!
الحقيقة المؤلمة
الذي حمانا من الانهيار في هذه اللحظة العصيبة كان هذا الصمود الأسطوري لوائل والمصاب جلل، والمحنة أكبر من أن تحتمل، بدا كل شيء فيه يبكي، لكنه حرص أن يوجه رسالة للقاتل بأنها دموع الإنسانية، وليست انهياراً، هنا اختفى الشاعر الحالم، وظهر الفلسطيني المقاوم، الذي لا يريد للعدو أن يظفر منه بلحظة ضعف!
في البداية قيل إن الاستهداف طال منزله، وتم تعديل الخبر بأنه في منزل في منطقة بعيدة عن الاستهداف، لكن كان واضحاً أنه انتقام من وائل، تماماً كما مقتل زميلته شيرين أبو عاقلة، مع سبق الإصرار والترصد، وفي هذه المرة بدا الكيان غاضباً من «الجزيرة» وفكر في وقف ارسالها، ووقف تراخيص العاملين فيها، ولم يستطع أن يضبطها متلبسة بنقل أخبار كاذبة، فقد كانت الحقيقة وحدها مؤلمة لهم، وهم يقتلون الأطفال والنساء ويستهدفون البنايات والمستشفيات!
أتذكر عندما انخرط أبو عمار في المفاوضات مع الإسرائيليين، وبدا السلام أقرب للمنطقة من حبل الوريد، أن فتن البعض منا، وفي مصر كانت هناك نغمة أن ما يقرره ياسر عرفات هو الصواب للقضية الفلسطينية، ألم يطنطن الإعلام العربي لسنوات طويلة أن منظمة التحرير هي المتحدث الرسمي والوحيد باسم الشعب الفلسطيني؟!
في هذا الوقت كتب البعض عن أن الصراع تحول ليكون صراعاً حضارياً، وكأن التغيير جرى في الخلايا الجذعية للمحتل، وكانت الصورة غير مكتملة، فكتب البعض عن تفوقها العلمي والإنساني، لكن ها هي الأيام تثبت أن هذه الصورة النمطية التي روجت لها الدعاية الإسرائيلية عن هذا الكيان الحضاري لا تمثل الحقيقة، ها هم يقصفون المستشفيات، ويقتلون النساء والأطفال، ويمارسون العقاب الجماعي، ويأخذون الأسر عقاباً لنقل الحقيقة المجردة.
إنها الحقيقة التي نقلتها «الجزيرة» للعالم، ونقلها وائل الدحدوح من غزة ومراسلي «الجزيرة» من الأرض المحتلة، فإذا بنا أمام همجية الإنسان في عصور ما قبل التاريخ الإنساني، وإذا بهذه الهمجية تجد حماية وتواطؤاً وانحيازاً، كشفت العورات للناظرين، وإن كذبوا وقائع أخرى فهل يمكن أن يمارسوا هذه العادة مع أسرة وائل الدحدوح، التي خرجت من ميدان المعركة، كما طلبت رسائل المسؤولين الإسرائيليين، فإذا بصواريخهم تصلهم حيث هم، وليس حيث ما قررت أنه فقط ساحة الحرب؟
وقال وائل الدحدوح إنهم ينتقمون منا في الأولاد، قبل أن يرد بأعظم استخدام للمفردة «معلِهش» كأنه يعزي مشاهديه، ويشاطرهم الأحزان في مصابهم الأليم، في ليلة تماهت فيها الإنسانية والمشاهدين مع محنة مراسل لا يعرفونه إلا من خلال الشاشة، والجميع في انتظار دعاء «عظم الله أجركم» باعتبار أنهم من أسرة وائل الكبيرة، في طول العالم وعرضه، وحيث وجدت الإنسانية!
خرج من غرفة المستشفى ليجد كاميرا «الجزيرة» مباشر ومراسلتها غالية محمد تقترب منه، ولم يشأ أن يخذل مشاهديه أو زميلته في أداء عملها، فتحدث فاذا هو الصمود، وفي يوم التالي عاود الظهور على «الجزيرة» ليقدم رسالته من غزة، مع علمنا أن شهداء الأسرة ليسوا فقط زوجته وابنته وابنه وحفيده، لكن أكثر من عشرة من أفرادها، فقد قام الاحتلال بمجزرة انتقاما لنقل الحقيقة من قطاع غزة، لم يعد الصراع حضارياً، كما روج له البعض في مرحلة اختلاط الأوراق، ولم يعد للتحضر مكاناً حتى في الدول الغربية، التي كنا نحسبها راعية له، وهي تتواطأ على قتل الأطفال واستهداف النساء، ومن يكشف هذا العالم أكثر من العقاب الجماعي الذي نزل على عائلة «الدحدوح»!
طفى على سطح الذاكرة ما درسته عن النظرية التطورية في علم الأنثروبولوجيا، وهي تربط التقدم بالمجتمعات الغربية، وأن التطور يكون من مرحلة المجتمعات البدائية وما ارتبط بها من همجية إلى أن تكون الإنسانية غرباً، فإذا بنا نكتشف أن العالم لم يبرح هذه المرحلة، وما حدث في غزة، وضد العائلة الكريمة، كاشفاً وليس منشئاً على أننا لم نبرح المجتمعات البدائية!
عرفنا في الصعيد جريمة «الأخذ بالثأر» واشكالياتها بجانب كونها تنتمي للمجتمعات، التي لم تشكل دولة، فيأخذ الإنسان حقه بيده، فإن الانتقام يتجاوز المخطئ إلى غيره، ووائل ليس مخطئاً ولو كذب في خبر لم سكتوا عليه، لكن جريمته أنه ينقل الحقائق من الأرض، ومع ذلك دفعت أسرته الثمن، وتواطأ الغرب المتحضر مع ما يحدث، فأي بدائية هذه يعيشها العالم منتحل صفة التحضر؟!
لقد قال الدحدوح إنهم ينتقمون منا في الأولاد. «معلِهش». لتدخل «معلِهش» قاموس اللغة على عاميتها، كأبلغ رد.
«معلِهش يا وائل» فقد ربح البيع.