د. يوسف العجلوني يكتب .. البعد عن الوظيفة الحكومية نجاح.
وكالة الناس – كتب. د. يوسف العجلوني – الوظيفة في اللغة العربية تعني “تأجير النفس” ، وفي اللغة التركية تسمى “مأمور” لتدل على أن الموظف مأمور من مسؤول أعلى منه ، وأنه المطيع الذي عليه أن يُنفذ فقط.
في معظم الدول المتطورة ، هنالك خطط مستقبلية لخمسين سنة قادمة ، والحكومة هدفها رفع كفاءة الآداء في المؤسسات العامة ، وتحسين الفعالية بطريقة تراكمية ، سنة بعد سنة ، وذلك لتحقيق الأهداف المطلوبة من المؤسسات وتعزيز ثقة المواطن بالمقدرات الوطنية.
الحكومة الرشيدة تهتم بتوزيع المهام وتشيكل فرق العمل ، وتصنع أو تستورد المعدات والأجهزة ، وتوظف الإدارات المتخصصة ، وتصنع الكفاءات ، وتتخذ القرارات السليمة ، وتقوم بالرقابة ومتابعة للعمل وكل ما يٌنجَز ، وتصر على تصحيح الأخطاء التي تظهر ، وتقوم بتقييم الأمور من منظور شامل أساسه المصلحة الوطنية والعامة.
الحكومة التي تؤمن بدورها ووجودها وتحترم نفسها ولها انتماء وطني ، سوف تهتم بصناعة وتأهيل موظفين ذوي عقلية ناضجة ، وتزيل أصحاب الاعاقات النفسية والفكرية من الطريق ، وتهتم بالتخطيط السليم الممنهج ، وتجذب المهارات والكفاءات ، وتنمي الخبرات اللازمة للقيام بكل الأعمال التي ترفع من شأن الدولة والمواطنين من زراعة وصناعة وتجارة .
الحكومة الحكيمة تهتم بالإستفادة من التجارب السابقة ، وتحوّل الخسارات إلى مكاسب ، وتهتم بالمبادىء والقيم الجوهرية للعمل ، كالشفافية ، والنزاهة ، والأمانة ، وتسير بخطى ثابتة وواضحة وقوية نحو تحقيق الأهداف.
العمل في القطاع الحكومي له مميزات شخصية كثيرة ، فساعات العمل فيه قليلة ، وهناك قلة في الضغط والتوتر الذي يتعرض له الموظف ، والتدرج الوظيفي يكون بدون جهد كبير ، وهناك ترقيات وعلاوات ثابتة تؤخذ بمرور الأيام ، الحوافز وزيادة الراتب مع زيادة عدد سنوات الخبرة كما أن هنالك أيام كثيرة من الإجازات والغياب عن الدوام ، والرواتب تكون في الوقت المحدّد ، بغضّ النظر عن الوضع الاقتصادي أو درجة الإنجاز ، التأمين الطبّي المجاني للأسرة ، إرضاء المسؤولين بأي شيء يحل كل المشاكل ، الموظفون متساوون بغض النظر عن الفائدة أو الكفاءة أو الانجاز ، والأمان الوظيفي المنقطع النظير وخاصة للأغبياء والحمقى ، فراغ كبير في العمل يُمكّن الموظف من القيام بأنشطة أخرى خاصة به ، التصفيق والتمجيد والتدليس لها فوائدها المعتبرة في الوظيفة الحكومية ، وأخيراً المعاشات التقاعدية التي يقتنع ويكتفي بها المتقاعصون.
العمل الحكومي في الدول الغير ناطقة بالمنطق ، يعاني من تدني الرواتب والحوافز والمكافآت لأصحاب المهارات والكفاءات مقارنةً مع ما يمكن أن يكسبه في القطاع الخاص. الواسطات والمحسوبية لها الدور الرئيسي في عملية التعيين والتقييم والترفيع والراتب والمنصب ، كما أن فرص العمل المناسبة محدودة ، وتسود قاعدة “الرجل الغير مناسب في المكان الغير مناسب” ، ليس مهم أن يكون هنالك تطوير للمهارات والكفاءات ، ليس لكل مجتهد نصيب ، المسؤول هو صاحب التقييم والقرار ، التعقيدات والمزاجية ، المدراء والمسؤولين يتغيرون باستمرار دون أي جدول زمني ، مما يؤخر أو يمنع إكمال الأعمال والمشاريع ويضيع الخبرات ، الفرص والترقيات تعتمد الأقدمية في التعيين ، وليس الأكثر تأهيلاً أو الأفضل تجهيزاً لهذا المنصب ، وليس على أساس الجدارة ، المعاملات في الوظيفة الحكومية تستغرق وقتاً طويلاً ويتطلب عدداً لا نهاية له من الأوراق والتواقيع والمراجعات والمجادلات وضياع الوقت (موت يا كديش تايجيك الحشيش).
العمل بالقطاع الخاص يتميز براحة نفسية كبيرة وحرية لن تعرف معناها حتى تعيشها ؛ الكسب المادي أعلى ، الذكاء والكفاءة والجهد هو الأساس ، نوع العمل وساعاته مريحة ، والمال يأتي في أي لحظة ولا يعتمد على نهاية الشهر ، الإجازات دون أي تعقيد ، كثرة فرص العمل وتنوعها ، سهولة التغير والتطوير في العمل ، العمل الإضافي ، اختيار العمل المناسب ، الحرية في تحديد ساعات العمل ، فرص العمل تعتمد على المهارات والمؤهلات، العمل الحر ليس حكراً على أحد ، ولا يوجد ما يمنع من اغتنام الفرص المغرية ، العمل الحر هو الأساس ، وهنالك اختبار حقيقي لقدراتك ، وفرصة لتطوير ذاتك ، ويعطيك الكثير من المرونة ، ويسمح لك ببناء شبكة من العلاقات في أماكن مختلفة سواء مع العملاء أو مع من يعملون بنفس مهنتك.
النجاح في الوظيفة الحكومية ممكن أن يكون مزيف ، وممكن أن يكون مُبالغ فيه ، وممكن أن يعتمد على سياسة الحكومة ، وما تتطلبه المرحلة ، ورضى المسؤول حتى لو كان أحمقاً وغبياً ، وممكن أن يكون نجاح على الورق وغير ملموس ولا يستفيد منه أحد ، وممكن أن يكون للنجاح عوائق كثيرة ، ولا يعتمد في معظم الأحيان على قدرات الشخص ولا كفائته ، وممكن قلب الأمور بأي وقت ؛ من إنسان ناجح إلى فاشل أو من فاشل إلى ناجح ، وهنالك الكثير من الأشخاص الذين لا يقومون بأي عمل مفيد، ولا تهمهم مصلحة الحكومة ويصبحوا ناجحين ، وهنالك كفاءات وأشخاص ينتمون لمصلحة الحكومة ولكن مع عدم رضى المسؤول يصبحوا غير ناجحين ويعرقلون العمل ويجب إزالتهم من الطريق ، مما ينعكس على العمل الحكومي بالفشل والتخلف وعدم النهوض بالمؤسسات وتعثرها وانتهائها.
النجاح في العمل الحر شيء مختلف ، وله قيمه ومعايير خاصة ، وتقرره أنت بعملك وجهدك ومتابعتك وشهاداتك وإصرارك ، وأنت تصنعه بنفسك ، وليس فيه محسوبية أو واسطة ، وهو مضمون وآمن إذا كان عندك الأسس وتقوم بالجهد اللازم ، ولا يستطيع أي شخص أن يسلبه منك ، وتنام قرير العين وأنت لست قلقاً من أن تُحاك المؤامرات ضدك ، وتذهب صباحاً للدوام وأنت متبسماً وبراحة بال ، ولست بحاجة لاذن أحد ، أو أن تجامل أحداً ، وتعمل متى ما أردت ، وأنت من يحدد نوع العمل وكمية الكسب منه ، وهنالك ربح سريع وربح على الأمد الطويل ، العمل الخاص يمتاز بالوضوح والموضوعية ، وعادةً ما يعتمد على القدرة على إنجاز العمل والمبادئ والبعد عن الكذب والغش ، وتحسين وصقل الخبرات والعلم والتطوير والتحسين والتأهيل.
القرار الحكيم القوي الواضح لمكان العمل هو بداية النجاح في أي مكان أنت فيه ، ويصنع فرقاً ملموساً في كل نواحي الحياة ، لأن اتخاذ القرار المناسب في وقته ومكانه ، دائماً هو الشيء الأفضل مهما كانت النتيجة ، ويريح الخاطر والنفس ، ويدل على رجولة وقوة وشجاعة وتمكن وثقة بالنفس.
إذا كنت صاحب قرار وأنت في الوظيفة الحكومية ، وتحب الإنجاز الحقيقي ، والإستقامة ، وتهمك المصلحة العامة ، سيكون عليك هجوم ممن لا يستطيعون مجاراتك من الكلاب والأنذال والحمقى ، وستسمع الكثيرين ممن حولك بالوظيفة يُظهِرون لك عصاميتهم وأنهم لا يخشَوْن إلا الله ، ولا يأبهون بغضب المدير وأنَّ قرارهم من ذاتهم ، وهم نفسُهم الذين سيقفون ضدك عندما تقولُ كلمة حقٍّ مخالفةً للمدير ومغايرة لما يريد ، وممكن أن يقولوا عنك أنك متهورٌ وذلك يجب أن يزيدك استصغاراُ لهم ، ولا تحترمهم ولا تصدق أقوالهم ، وممكن أن يقولوا لك : لماذا تقف في الواجهة ؟.”دعْ غيرك يبادر ولا تكن أنت في فوهة المدفع ، وليش حامل السلم بالعرض وعامل عنتر بن شداد”.
خبرتك الطويلة بالوظيفة الحكومية ، سوف تعلمك أنَّ كلمة الحق غير مرغوبة ، وأنّ المنافقين يترأسون ، وأن الضعفاء يستأسدون على من هم أضعف ، واللامبالاة مريحة ، وتبقيك في الوظيفة ، وشعار “فخّار يطبِّش بعضه” فعال ، و”أنا مالي” يعطيك فراغاً وراحة نفسية ، و “هم يتحملون وما أنا إلا عبدٌ مأمور” شعار يغنيك أن تجد سبب لأخطاءك وفشلك بالعمل ، ومع مرور السنوات ، الذي يخسر هو المؤسسة والوطن .
مسكين يا وطن.
في الدول التي لا يهمها التقدم ولا الاستمرارية ولا النهوض بالمؤسسات ، يكون للوظيفة رونق وعز وعليها ذل وحمق ، ولذلك تجد من يتولاها يحاول الإستفادة من عزها وإن دفع ثمن ذلها من كرامته وأمانته ، وكلما زاد حجم الوظيفة ، زاد حجم عزها وذلها معاً ، لأن صاحب المنصب يجد نفسه بين عشية وضحاها وقد أصبح يستطيع قضاء جميع احتياجاته بسهولة ، ويجد بين يديه عشرات المستعدين لخدمته، ويكون مستمتعاً بالأضواء وحديث الناس ، والاستقبال والترحيب والتوديع ما دام في وظيفته ، والفوائد المادية المتعددة ، ولذلك تجد صاحب المنصب يصل إلى مرحلة من الذل تجعله لا يتردد في التخلي عن المبادئ وانسانيته وكرامته من أجل إرضاء مسوؤل أحمق مثله ، لأنه رئيسه وبيده أمر استمراره في المنصب ، على الرغم من تمتعه المؤقت بعز الوظيفة ودفعه الكثير من كرامته ذلاً لها ، وإذا ما فقد منصبه سوف يعرف الحقيقة ، ويُصاب بالاكتئاب.
الكثير من الناس لا يعرفون أن الهدف الحقيقي من الحياة هو العيش بسلام وسعادة ، وأن رضا النفس والتصالح معها والعزة والكرامة والراحة النفسية تحقق لنا السعادة التي يفتقدها الكثير من الناس الذين يتمسكون بالوظيفة حتى آخر رمق في حياتهم ، بل بعضهم يموت وهو في الوظيفة بسبب الظلم والضغوط الشديدة اليومية التي يعانيها ، فإن كنت تعمل لكي تعيش بسعادة ، فاعلم أنك تعمل لتموت متألماً من جراحك ، فقد أصبحت الوظيفة سبباً رئيساً للكثير من الأمراض الخطرة جسمياً ونفسياً وجنسياً ، وفيها صعوبات و إصابات وذل ، والإهانات المستمرة ، وقلة القيمة ، والتنازل يوماً بعد يوم سوف تتنازل عن كرامتك وإحساسك ورجولتك وإنسانيتك ، ولا يبقى منك إلا جسد بروح ميتة قبل موتها بكثير.
أحيانا يضطر الإنسان إلى قبول العمل في بيئات وظيفية مملؤة بالمعاناة والقهر ، وتفتقر إلى معايير العدالة والممارسات الإنسانية ، ويضطر إلى قبول هذه الوظيفة مهما كانت شروطها ، ويضل متمسكاً بالوظيفة على الرغم من أن البيئة غير صالحة للعيش البشري ، وفاسدة ، وتفتقر إلى معايير الإحساس بالكرامة والعدل ، ويبقى مستمراً بالوظيفة رغم تجاوزه فترة التقاعد ، يعيش حياته خوفاً بخوف ، هؤلاء الذين لا يشعرون بمتعة الحياة ، ويعيشون تحت مستوى النظر ، بضغوط شديدة حتى لو مُسّت كرامتهم وصحتهم ونفسيتهم ، والصحيح أن على هؤلاء الموظّفين مغادرة وظائفهم بأسرع ما يمكن ليعيشوا السنوات المتبقية من حياتهم بعيداً عن العمل المقرف ، وهؤلاء الموظفين عليهم أن يدركوا أن الوظيفة ليست حياة أبدية يعيشونها ، وأنها قفص خلقوا له ، وليست إرث عائلي ، وليست قدرهم ، وإنما هي محطة في حياتهم لا بدّ أن تنتهي ، ويجب أن يتمتعوا بالسنوات القليلة المتبقية من عمرهم ، ويجب أن يعرفوا أن الوظيفة قد استنزفت أحلى سنوات عمرهم ، ويجب عليهم أن يبدأوا الحياة ويعيشوا ما تبقى منها بصحة ، لأنهم سوف يعرفون يوماً أن الحياة في حقيقتها إنما هي خيط دخان.