أخلاق المهنة في اختبار.. ازدواجية الإعلام في تغطية غرق مركب اللاجئين وغواصة الأثرياء
وكالة الناس – في كل عام، يشهد العالم العديد من الكوارث الطبيعية والإنسانية التي تتسبب في خسائر بشرية. ومع ذلك، يظهر التفاوت الصارخ في التغطية الإعلامية بين هذه الكوارث؛ حيث تتلقى بعضها اهتماما وتعاطفا واسعا وتغطية إعلامية كثيفة، بينما يتم تجاهل حوادث ومآس إنسانية أخرى وتحويلها إلى موضوعات فرعية هامشية.
في الأيام الماضية كان التفاوت صارخا في التغطية الإعلامية لكارثتين بحريتين، فبينما أسفر غرق قارب لاجئين قبالة سواحل اليونان الأسبوع الماضي عن فقدان المئات (أغلبهم من باكستان وسوريا ومصر) في إحدى أسوأ المآسي التي شهدها البحر الأبيض المتوسط على الإطلاق بدت تغطية الكارثة ضئيلة في وسائل الإعلامية مقارنة بكثافة الأضواء التي سُلطت على كارثة مقتل الأشخاص الخمسة الذين كانوا على متن الغواصة المفقودة “تيتان” في أعماق المحيط الأطلسي، حيث كانت الغواصة في رحلة لمشاهدة حطام سفينة تيتانيك.
وقال نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي إن الاختلاف في التغطية الإعلامية يبعث رسالة مفادها أن المأساة هي غرق المليارديرات في البحر، فيما غرق مئات اللاجئين أمر طبيعي ومعتاد ولا يحرك ساكنا.
وكانت الجزيرة نت قد كشفت في تحقيق استقصائي عن تورط خفر السواحل اليوناني في مأساة غرق اللاجئين، حيث بدت روايات اليونان متناقضة وغير مقنعة لكثيرين، فضلا عن مخالفتها لقانون البحار الدولي، وتناقضها كذلك مع شهادات الناجين والمنظمات الحقوقية والإغاثية والنشطاء بما في ذلك نشطاء أوروبيون ويونانيون استنكروا الرواية الرسمية.
تعاطف انتقائي
وفي تفسيرها للتفاوت الصارخ للتغطية الإعلامية قالت الصحفية العلمية كاثرينا مين في تقريرها لمجلة “ساينتفيك أميركان” (Scientific American) أن هناك إجابة واحدة محتملة، هي أن “مصير المليونيرات الجريئين يبدو أقرب إلينا من مصير الأشخاص الفارين من الحرب”.
وأضافت أن قصة واحدة برائحة المغامرة والفضول والرفاهية، تفوح أكثر من مزيج روائح أخرى من الخوف واليأس والبؤس، فإذا تم إنقاذ رجال الأعمال، فسيعودون إلى منازلهم في قصورهم وفيلاتهم. من ناحية أخرى، تبرز أسئلة جديدة مع المهاجرين، بما في ذلك أماكن الإقامة الطارئة التي سيتم نقلهم إليها ونفقات ذلك.
أوباما ينتقد
وفي مؤتمر حول الصعوبات التي يواجهها طالبو اللجوء عقدته مؤسسة “ستافروس نياركوس” (SNF) في أثينا أمس الخميس، دعا الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى التفكير في “الظروف التي تدفع اليائسين إلى القدوم إلى هنا”، مشيرا لظروف لا يمكن تجاهلها.
وأضاف “فكر فيما يحدث هذا الأسبوع. هناك مأساة تتكشف مع الغواصة التي تحصل -كما تعلمون- على تغطية مستمرة على مدار الساعة، في شتى أنحاء العالم.. وهذا أمر مفهوم، لكن حقيقة أن هذا قد حظي باهتمام أكبر بكثير من 700 شخص غرقوا.. فهذا وضع لا يمكن الدفاع عنه”.
وفي مقابلة مع شبكة “سي إن إن” الأميركية كرر أوباما نفس المقارنة وقال “لن تكون ديمقراطيتنا سالمة مع مستويات عدم المساواة التي رأيناها، الناتجة عن العولمة، والأتمتة، وغياب النقابات، وعدم المساواة الفاحش”، مشيرا لتركيز الأخبار على فقدان الغواصة بشكل مأساوي في قاع البحر، بينما “في الوقت نفسه، هنا، بالقرب من ساحل اليونان، كان لدينا 700 شخص مهاجر على ما يبدو تم تهريبهم، وقد جرى نقل أخبار عن الأمر، لكنها لم تكن مهيمنة بنفس الطريقة”.
واعتبر أوباما أن ذلك “يعد مؤشرا على الدرجة التي نما بها التفاوت الشديد في حيوات الناس”.
عمدت الكثير من وسائل الإعلام إلى استخدام مصطلح “مهاجرين” لوصف الأشخاص الذين غرقوا قبالة سواحل اليونان، و”يخفي هذا المصطلح العديد من الأفراد المشمولين بتلك التسمية بدلا من إلقاء الضوء عليهم”، إنهم يستحقون نفس النوع من الموارد والاهتمام والتعاطف الذي تمتع به 5 مغامرين أغنياء، وضعوا أنفسهم في طريق الأذى من أجل المتعة، وليس لأنهم كانوا يائسين من أجل حياة أفضل، كما تقول الكاتبة أروى مهداوي في صحيفة الغارديان (The Guardian) البريطانية.
ويقول الصحفي بمعهد الجزيرة للإعلام محمد أحداد إن قضية توظيف المصطلحات تثير إشكاليات مهنية وأخلاقية ترتبط بالخلفية التي تصدر عنها، لاسيما الرغبة في تجريد الناس من حقهم الأساسي في الحماية.
ويعتبر أحداد أن توظيف المصطلحات في التغطية الإعلامية، ليس خيارا “دلاليا” بريئا؛ لأنه قد ينطوي على دوافع سياسية خفية، مشيرا إلى أن قناة الجزيرة أسست سنة 2015 لاجتهاد صحفي جديد عندما أعلنت بشكل واضح أنها ستتخلى عن الاستخدام الممنهج لكلمة “مهاجر” معتبرة أن هذا المصطلح أصبح “ازدرائيا” و”اختزاليا”، وأداة لتجريد الأشخاص المعنيين من إنسانيتهم، ويمنح شرعية لخطابات العنصرية.
ويعتبر مؤلف كتاب “يد في الماء ويد في النار” حول الصحافة الاستقصائية أن مصطلح “مهاجر” الذي يوظف كمظلة “سياسية” لم يعد كافيا لوصف الرعب الذي يجري في البحر الأبيض المتوسط حاليا؛ لأنه يسلب الناس إنسانيتهم ويتنافى مع المنظومة الدولية لحقوق الإنسان.
ويشير لكون المصطلحات اختيارات تحريرية ترتبط أحيانا بتوجهات سياسية محضة مدفوعة بانتعاش غير مسبوق لخطاب اليمين المتشدد ضد الهجرة واللجوء، ليتحول أشخاص هاربون من الحروب والاضطهاد والأزمات الاقتصادية الخانقة إلى مجرد “مهاجرين” دون “هوية ولا تاريخ”.
وفي تعليقها على التفاوت في التغطية الإعلامية قالت بريامفادا جوبال، الأكاديمية بكلية اللغة الإنجليزية بجامعة كامبردج البريطانية، إن حياة عدد قليل من الناس أهم من حياة الكثيرين في عالمنا.
وأضافت جوبال في مقالها للجزيرة الإنجليزية أن هذا التفاوت يزداد حدة على طول الخطوط الجيوسياسية والطبقية والعرقية والطائفية. الفقراء والضعفاء وضحايا الحرب الذين يتشبثون بجوانب زورق مطاطي ليسوا “محزنين” بنفس الطريقة التي ظهر بها الرجل الأبيض الثري كـ”مستكشف” أو “مغامر” يذهب إلى البحر في رحلة باهظة الثمن حسب الطلب.
وأشارت جوبال إلى أن القصص الإخبارية التي تنقلها وسائل الإعلام تتحدث كثيرا عن مخاطر اللاجئين وتصورهم بأنهم “مهاجرون اقتصاديون جشعون” أو محتالون للوصول إلى أوروبا حيث أنظمة الرفاهية، ويتم تصويرهم أيضا باعتبارهم ساذجين ومتهورين يقدمون أموالهم للمجرمين مقابل الرحلة ويخاطرون بسلامتهم في قوارب ليست صالح للإبحار، بينما يقارن كل ذلك بأجواء البطولة والشجاعة المأساوية التي استثمرها الرجال الخمسة في الغواصة الغارقة.
وتابعت جوبال قائلة إن الموت حقيقة يقبلها العديد من اللاجئين وطالبي اللجوء أيضا، على الرغم من أنه يمكن القول إن رفاهية الاختيار لديهم أقل بكثير في هذا الشأن، مشيرة إلى أن اللاجئين لا يتركون “الجحيم” إلا عندما يتبين لهم أن أي مكان آخر سيكون أكثر أمانا، ومع ذلك، نادرا ما تتم الإشادة بشجاعة اللاجئين في السعي لعيش حياة جديدة في أماكن جديدة غريبة عنهم.