«سرفيس العبدلي»..
بعد التخرج من الجامعة والبحث عن وظيفة ، كانت خبرتي في عمّان ومواصلاتها مثل خبرتي بمدينة نيويورك وضواحيها تماماً..لذلك في كل مرة كنت أنوي فيها أخذ شهاداتي والتقدم إلى وظيفة هناك وبمجرد جلوسي في باص الرمثا تصيبني أعراض كثيرة مثل نشفان الريق والتعرّق و»الهتورة» غير المبررة ،حتى مجاملاتي للركاب المجاورين كانت أقرب إلى الشتيمة منها إلى المجاملة فتختلط عبارة : «الله يسعد شواربك» وعبارة : «يطولي عمرك»..فتصبح الله «يطول شواربك « أو «يسعدلي طولك»..طبعاً كل هذا الخوف الذي كان ينتابني فقط بمجرد التفكير في الذهاب إلى عمان ، لأنني لم أكن أعرف وسيلة مواصلات في العاصمة غير «سرفيس العبدلي»..ينزلني باص الرمثا على دوار الداخلية..فأقف في طابور «سرفيس العبدلي» الذي يأخذنا إلى وسط البلد..وأقف على طابور «ٍسرفيس العبدلي» في وسط البلد ليأخذني إلى باص الرمثا..هذا كل ما أعرفه من عمان التي أرخت جدائلها فوق الكتفين..
الوقوف على طابور «سرفيس العبدلي»..كوّن لدي بعض الخبرات في التقدير وقراءة النتائج، مثلاً صرت أعرف من من الركّاب سيكون شريكي في سيارة الــ200 قص؟…وكم سيارة نحتاج ليلحقني الدور ؟ وكم صبية ستكون معنا في الرحلة المعطرة بدخان اكزوزت باصات المؤسسة ؟ وأين مكان جلوسي من الصبية..كل هذا اكتسبته بإمالة رأسي قليلاً عن الطابور وعدّ الواقفين «أربعات ..أربعات» كل أربعة أشخاص في سيارة وهكذا تنكشف كل المعلومات السابقة بغضون دقائق..
وعند وصول السيارة «لأربعتنا» تحدث تغييرات غير متوقعة ، أولاً يتم إجلاس الصبية في الكرسي الأمامي ،ثم يبدأ كشف النوايا الخبيثة للاثنين الآخرين حيث يبيتان النية «ليكبسوك» في المنتصف، الأول سمين جداً يقول: « أنا نازل ع الطريق» فيفتح الباب لمرورك ، وقبل ان تدخل لتحتل الكرسي الذي خلف السائق تماماً يرجعك من قبة قميصك شاب مفتول العضلات يقول أربع كلمات ولا يزيد عليهن: «أنا آخر واحد نازل» فتضطر للجلوس في المنتصف .
الأربعة لا يعرفون بعضهم بعضاَ لكن لديهم مصلحة مشتركة في الجلوس معاً للوصول للعبدلي، الصبية موظفة في شركة ما ربما أو خريجة جديدة مثلي ، الرجل السمين يبدو معلم حلويات او متضمن «معاطة جاج» ، أما مفتول العضلات فعلى الأغلب مشرف مركز لياقة أو «كبّاب شر» لا فرق..أهواء مختلفة وتوجهات مختلفة لكن اضطررنا للركوب في وسيلة مواصلات واحدة للوصول..عليك أن تتحمل الدهن المتدلي من جسد الرجل المنتفخ وعليك ان ترضى ببقعة عرق مفتول العضلات التي ترشح على كتفك وفوقها ذوق السائق باختيار الأغاني وتعجرف الصبية على كل الجالسين في الخلف…كلّ منا كان يمد يده في جيبه ويدفع أجرته على حدة ، ولا يتدخل يقصة الفراطة إن «عصلجت» بين السائق وأحد الجالسين، بالعكس تحاول الا تقترح أياً من الحلول..في أقصى حالات التعاون ، فقط قد تساهم بمد يدك وإرجاع القروش إلى صاحبها كونك الأقرب ليد السائق ، أو أن تزحف بمؤخرتك بشكل عرضي على الكرسي الخلفي نحو اليمين لتفتح طريق لمفتول العضلات وهو يقول لك: «أنا نازل»..وتحاول ان تغلق الباب بهدوء بعد أن بقيت وحدك كي يرضى عنك سائق السيارة ولا يتهمك «بالحمرنة» كما اتهم سابقيك على مسمعك..
القوائم الانتخابية تشبه «سرفيس العبدلي»، ركابها لا يعرفون بعضهم بعضاَ لكن لديهم مصلحة للجلوس المؤقت معاً للوصول للمجلس ،»بنت الكوتا» يجلسونها في الأمام مرتاحة كنوع من التمييز العنصري، ورجل الأعمال المتكرّش «جنب الشباك» بسبب ضخامة رأس ماله..وصاحب العضلات العشائرية خلف السائق مباشرة «خاوة» والمثقف والأكاديمي «حشوة» في المنتصف..كل من الركاب الأربعة يمد يده ويدفع تكلفة دعايته الانتخابية من جيبه الخاص ، لا حديث بينهم ولا توافق ولا انسجام ..وعند النتائج يبقى الحشوة يزحف بمؤخرته بشكل عرضي للنازلين على العبدلي..فيما ينزل هو كآخر الركاب على باص قريته بعد ان يغلق الباب بهدوء…
و هاي السولافة…