جون سيمبسون: غطيتُ 40 حرباً، لكنني لم أرَ عاماً مثل عام 2025
وكالة الناس -غطيتُ أكثر من 40 حرباً حول العالم خلال مسيرتي المهنية التي تعود بداياتها إلى ستينيات القرن الماضي. شاهدت الحرب الباردة تبلغ ذروتها، ثم تتبخر فجأة. لكنني لم أرَ عاماً مثيراً للقلق مثل عام 2025، ليس فقط بسبب احتدام العديد من الصراعات الكبرى، بل لأنه بات من الواضح أن أحدها يحمل تداعيات جيوسياسية ذات أهمية غير مسبوقة.
تبدي حكومات حلف الناتو حالة تأهب قصوى تحسباً لأي مؤشرات على قيام روسيا بقطع الكابلات البحرية التي تنقل البيانات الإلكترونية، والتي تسمح للمجتمعات الغربية بالاستمرار. وتتهم طائراتها المسيّرة باختبار مدى فعالية دفاعات دول الناتو، بينما يطوّر قراصنة الإنترنت التابعون لها أساليب لتعطيل عمل الوزارات وخدمات الطوارئ والشركات الكبرى.
وتؤكد السلطات الغربية تورّط أجهزة الاستخبارات الروسية في قتل، ومحاولة قتل، معارضين لجأوا إلى الغرب. وقد خلص تحقيق في محاولة اغتيال عميل المخابرات الروسية السابق سيرغي سكريبال في سالزبوري في المملكة المتحدة عام 2018، بالإضافة إلى حادثة تسميم دون ستورجيس، وهي امرأة بريطانية، إلى أنّ القرار بشأن الهجوم اتخذ على أعلى المستويات في روسيا، أي من قبل الرئيس بوتين نفسه.
هذه المرة تبدو مختلفة
شهد عام 2025 ثلاث حروب شديدة التباين. هناك حرب أوكرانيا بالطبع، حيث أفادت الأمم المتحدة بمقتل 14 ألف مدني. وفي غزة، حيث توعّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ”انتقام عظيم” بعد مقتل نحو 1200 شخص في هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، واحتجاز 251 رهينة.
ومنذ ذلك الحين، قتل أكثر من 70 ألف فلسطيني جراء العمليات العسكرية الإسرائيلية، من بينهم أكثر من 30 ألف امرأة وطفل، وفقاً لوزارة الصحة التي تديرها حماس في غزة، وهي أرقام تعتبرها الأمم المتحدة موثوقة.
في غضون ذلك، تشهد السودان حرباً أهلية ضارية بين فصيلين عسكريين. وقتل أكثر من 150 ألف شخص هناك خلال العامين الماضيين، ونزح نحو 12 مليون شخص من ديارهم.
ربما لو كانت هذه الحرب هي الوحيدة في عام 2025، لكان العالم الخارجي قد فعل المزيد لإيقافها، لكنها لم تكن كذلك.
قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بينما كانت طائرته تقله إلى إسرائيل بعد أن تفاوض على وقف إطلاق النار في غزة: “أنا بارع في حلّ الحروب”. صحيح أن عدد القتلى في غزة انخفض الآن، ورغم وقف إطلاق النار، فإن حرب غزة لا تبدو وكأنها حلّت.
وبالنظر إلى المعاناة المروّعة في الشرق الأوسط، قد يبدو غريباً القول إن الحرب في أوكرانيا على مستوى مختلف تماماً عن هذه الحروب. لكنها كذلك.
يستحق الانتباه نهاية
إن وضعنا الحرب الباردة جانباً، فإن معظم الصراعات التي غطيتها على مر السنين كانت صراعات محدودة النطاق: شرسة وخطيرة بلا شك، لكنها لم تكن خطيرة بما يكفي لتهديد سلام العالم بأسره. بعض الصراعات، مثل حرب فيتنام، وحرب الخليج الأولى، وحرب كوسوفو، بدت في بعض الأحيان وكأنها قد تنزلق إلى ما هو أسوأ بكثير، لكنها لم تفعل.
كانت القوى العظمى متخوفة للغاية من المخاطر التي قد تنجم عن تحول حرب تقليدية محلية إلى حرب نووية.
وبحسب ما ورد، صرخ الجنرال البريطاني السير مايك جاكسون عبر جهاز اللاسلكي في كوسوفو عام 1999 قائلاً: “لن أبدأ الحرب العالمية الثالثة من أجلكم”، وذلك عندما أمر قائده في حلف الناتو القوات البريطانية والفرنسية بالاستيلاء على مطار في بريشتينا بعد وصول القوات الروسية إليه أولاً.
لكن في العام الجديد، 2026، يبدو أن روسيا، التي لاحظت عدم اهتمام الرئيس ترامب الواضح بأوروبا، مستعدة وراغبة في السعي إلى تحقيق هيمنة أكبر بكثير.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، قال بوتين إن روسيا لا تخطط لخوض حرب مع أوروبا، لكنها مستعدة “الآن” إذا أراد الأوروبيون ذلك.
وفي حدث متلفز لاحق، قال: “لن تكون هناك أي عمليات إذا عاملتمونا باحترام، وإذا احترمتم مصالحنا كما حاولنا دائماً احترام مصالحكم”.
لكنّ روسيا، وهي قوة عالمية عظمى، غزت بالفعل دولة أوروبية مستقلة، ما أدى إلى سقوط أعداد هائلة من القتلى المدنيين والعسكريين. وتتهمها أوكرانيا باختطاف ما لا يقل عن 20 ألف طفل، وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على خلفية هذه القضية، وهو ما تنفيه روسيا باستمرار.
وتقول موسكو إنها غزت أوكرانيا لحماية نفسها من توسع الناتو، غير أنّ الرئيس بوتين لمح إلى دافع آخر يتمثل في السعي إلى استعادة مجال النفوذ الإقليمي لروسيا.
وهو يدرك بامتنان أنّ العام الماضي، 2025، شهد ما اعتبرته معظم الدول الغربية أمراً لا يمكن تصوّره: احتمال أن يدير رئيس أمريكي ظهره للنظام الاستراتيجي الذي ظل سارياً منذ الحرب العالمية الثانية.
استياء أمريكي
لم تعد واشنطن غير متأكدة من رغبتها في حماية أوروبا فحسب، بل باتت تستنكر أيضاً المسار الذي ترى أنّ أوروبا تمضي فيه. ويزعم تقرير استراتيجية الأمن القومي الجديد لإدارة ترامب أنّ أوروبا تواجه الآن “احتمالاً صارخاً لمحو حضارتها”.
رحّب الكرملين بالتقرير، معتبراً أنه يتماشى مع رؤية روسيا. طبعاً.
وفي الداخل الروسي، نجح بوتين في إسكات معظم المعارضة له وللحرب على أوكرانيا، وفقاً للمقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان في روسيا. إلا أنه يواجه تبعات سياساته، من بينها احتمال ارتفاع التضخم مجدداً بعد فترة من التباطؤ الاقتصادي، وتراجع عائدات النفط، واضطرار حكومته إلى رفع ضريبة القيمة المضافة للمساهمة في تمويل الحرب.
اقتصادات الاتحاد الأوروبي أكبر بعشر مرات من اقتصاد روسيا، بل وأكثر من ذلك إذا أضفنا المملكة المتحدة. ويبلغ عدد سكان أوروبا مجتمعة نحو 450 مليون نسمة، أي أكثر من ثلاثة أضعاف عدد سكان روسيا البالغ 145 مليون نسمة. ومع ذلك، بدت أوروبا الغربية متخوفة من فقدان امتيازاتها، وكانت حتى وقت قريب مترددة في تحمّل تكاليف الدفاع عن نفسها، طالما أمكن الاعتماد على الولايات المتحدة لضمان أمنها.
وأمريكا اليوم مختلفة أيضاً: أقل نفوذاً، وأكثر انغلاقاً على نفسها، وباتت تتباعد تدريجياً عن أمريكا التي غطيتها طوال مسيرتي المهنية. فهي، كما في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، تسعى إلى التركيز على مصالحها الوطنية.
وحتى لو خسر الرئيس ترامب جزءاً كبيراً من قوته السياسية في انتخابات التجديد النصفي العام المقبل، فقد يكون قد دفع بالبلاد إلى مسار انعزالي إلى حدّ أنّ وصول رئيس أمريكي أكثر ميلاً إلى الناتو في عام 2028 قد يجد صعوبة في تقديم الدعم لأوروبا.
ولا تظنّوا أنّ فلاديمير بوتين لم يلاحظ ذلك.
خطر التصعيد
يبدو أنّ عام 2026 سيكون عاماً حاسماً. قد يشعر زيلينسكي بأنه ملزم بالموافقة على اتفاق سلام يقتطع بموجبه جزءاً كبيراً من الأراضي الأوكرانية. فهل ستكون هناك ضمانات كافية ومقنعة لمنع الرئيس بوتين من العودة للمطالبة بالمزيد بعد بضع سنوات؟
وبالنسبة إلى أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين، الذين يشعرون بالفعل بأنهم في حالة حرب مع روسيا، يُعدّ هذا السؤال بالغ الأهمية. وسيتعين على أوروبا تحمّل عبء أكبر بكثير في دعم أوكرانيا، غير أنّ إدارة الولايات المتحدة ظهرها لكييف، كما تهدد أحياناً، سيجعل هذا العبء هائلاً.
لكن هل يمكن أن تتحول الحرب إلى مواجهة نووية؟
نعلم أن الرئيس بوتين مقامر، وكان في وسع قائد أكثر حذراً أن يتجنب غزو أوكرانيا في فبراير/شباط 2022. ويطلق مقرون منه تهديدات مرعبة بمحو المملكة المتحدة ودول أوروبية أخرى من الخريطة باستخدام أسلحة روسية جديدة يجري التباهي بها، غير أن بوتين نفسه يميل عادةً إلى قدر أكبر من ضبط النفس.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ما زالت عضواً فاعلاً في حلف الناتو، فإن خطر الرد بهجوم نووي مدمر يظل قائماً، على الأقل حتى الآن.
الدور العالمي للصين
أما الصين، فقد وجه الرئيس شي جينبينغ في الآونة الأخيرة تهديدات صريحة ضد جزيرة تايوان ذات الحكم الذاتي. وقبل عامين، صرح مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية آنذاك، ويليام بيرنز، بأن شي جينبينغ أصدر أوامره إلى جيش التحرير الشعبي بالاستعداد لغزو تايوان بحلول عام 2027. وإذا لم تتخذ الصين خطوة حاسمة للمطالبة بتايوان، فقد يرى شي جينبينغ في ذلك مظهراً من مظاهر الضعف، وهو أمر لا يرغب به.
وقد يظن البعض أن الصين اليوم قوية وغنية إلى حد يجعلها غير معنية بالرأي العام الداخلي، غير أن الواقع خلاف ذلك. فمنذ الانتفاضة ضد دينغ شياو بينغ عام 1989، التي انتهت بمجزرة تيانانمن، يراقب القادة الصينيون ردود الفعل الداخلية بحذر بالغ.
لقد شاهدت بنفسي تلك الأحداث وهي تتكشف في ميدان تيانانمن، وغطيت ما جرى هناك، بل عشت في الميدان أحياناً.
لم تكن أحداث الرابع من يونيو/حزيران 1989 بالبساطة التي ظنناها آنذاك: جنود مسلحون يطلقون النار على طلاب عُزّل. صحيح أنّ ذلك حدث فعلاً، لكنّ معركة أخرى كانت تدور رحاها في بكين ومدن صينية أخرى. فقد خرج آلاف من أبناء الطبقة العاملة إلى الشوارع، عازمين على استغلال الهجوم على الطلاب كفرصة للإطاحة بالحزب الشيوعي الصيني من السلطة بالكامل.
وعندما تجولت بالسيارة في الشوارع بعد يومين، رأيت ما لا يقل عن خمسة مراكز شرطة وثلاثة مقار لشرطة الأمن المحلية وقد احترقت. وفي إحدى الضواحي، أضرم حشد غاضب النار في شرطي، وأسندوا جثته المتفحمة إلى جدار. وضعت قبعة رسمية على رأسه بزاوية مائلة، ووضعت سيجارة بين شفتيه المتفحمتين.
اتضح أنّ الجيش لم يكن يقمع احتجاجاً طلابياً طويل الأمد فحسب، بل كان يسحق انتفاضة شعبية شارك فيها قطاع واسع من المجتمع الصيني.
ولا تزال القيادة السياسية الصينية عاجزة عن محو ذكريات ما جرى قبل 36 عاماً، وتترقب باستمرار أي بوادر معارضة، سواء من جماعات منظمة مثل فالون غونغ، أو الكنيسة المسيحية المستقلة، أو حركة الديمقراطية في هونغ كونغ، أو حتى احتجاجات شعبية محدودة ضد الفساد المحلي. وتقمع جميع هذه التحركات بقوة شديدة.
أمضيت وقتاً طويلاً في تغطية أخبار الصين منذ عام 1989، متابعاً صعودها نحو الهيمنة الاقتصادية والسياسية. وتعرّفت حتى على سياسي بارز كان خصماً لشي جينبينغ. كان اسمه بو شيلاي، وكان محباً للثقافة البريطانية، ويتحدث بصراحة لافتة عن السياسة الصينية.
قال لي ذات مرة: “لن تفهم أبداً مدى شعور الحكومة بعدم الأمان عندما تدرك أنها غير منتخبة”.
أما بو شيلاي، فقد حكم عليه بالسجن مدى الحياة عام 2013 بعد إدانته بالرشوة والاختلاس وإساءة استخدام السلطة.
إذن، يبدو أنّ عام 2026 سيكون عاماً مفصلياً. ستتعزز قوة الصين، وستتضح معالم استراتيجيتها للسيطرة على تايوان، وهو الطموح الكبير لشي جينبينغ. وقد تُحسم الحرب في أوكرانيا، لكن بشروط تصب في مصلحة الرئيس بوتين.
وقد يجد نفسه حراً في العودة للمطالبة بالمزيد من الأراضي الأوكرانية عندما يرى الوقت مناسباً. أمّا الرئيس ترامب، فعلى الرغم من احتمال تقليص نفوذ جناحيه السياسيين في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر/تشرين الثاني، فسيواصل دفع الولايات المتحدة بعيداً عن أوروبا.
ومن المنظور الأوروبي، لا يمكن أن تبدو الآفاق أكثر قتامة مما هي عليه الآن.
وإذا كان الاعتقاد أنّ الحرب العالمية الثالثة ستكون مواجهة نووية مباشرة، فذلك غير مرجّح. الأرجح أن تأخذ شكل سلسلة من المناورات الدبلوماسية والعسكرية، بما يعزز ازدهار الحكم الاستبدادي، وقد يهدد بتفكيك التحالف الغربي نفسه.
وهذه العملية بدأت بالفعل.
