لماذا نرى أحيانًا قمرين في السماء؟ تفسير الظاهرة البصرية

وكالة الناس – منذ أن رفع الإنسان رأسه نحو السماء لأول مرة، كان القمر أحد أكثر الأجسام التي أثارت فضوله وإعجابه. يظهر في الليالي المظلمة مضيئًا بنوره الفضي، ويتغيّر شكله من هلال إلى بدر ثم يتناقص من جديد في دورة لا تنتهي، بالنسبة لكثيرين، يمثل القمر رمزًا للجمال والسكينة، لكنه أيضًا مصدر لعدد من الظواهر الفلكية الغامضة التي حيرت العلماء والهواة على حد سواء.

أحيانًا، يسمع البعض عن ظاهرة غريبة تُعرف باسم “رؤية قمرين في السماء”، أي أن العين ترى قمرين بدلًا من واحد! وهنا تبدأ التساؤلات: هل نحن أمام ظاهرة فلكية حقيقية؟ أم أنها مجرد خداع بصري سببه انعكاس الضوء أو تشوش الرؤية؟ وهل هناك تفسير علمي يؤكد هذا المشهد الغامض؟

في هذا المقال، سنتعمق معًا في هذه الظاهرة المثيرة، وسنحاول فهم أسبابها الحقيقية، والتمييز بين العلم والخرافة، وبين الواقع والبصر المخدوع.

ما المقصود بظاهرة “قمران في السماء”؟
يطلق الناس أحيانًا عبارة “رأيت قمرين في السماء” عند ملاحظتهم مشهدًا يبدو فيه أن هناك جيرمين مضيئين متشابهين في الحجم والسطوع، يقفان متقابلين أو متجاورين في الأفق الليلي، وقد تكون هذه المشاهدة حقيقية من حيث الانطباع البصري، لكنها لا تعني أن هناك قمرين فعليين يدوران حول الأرض.

الحقيقة العلمية الثابتة هي أن الأرض تمتلك قمرًا واحدًا فقط، هو القمر المعروف، ولا يوجد أي جرم سماوي آخر يدور حولها بنفس الشكل أو يُرى بالحجم ذاته من على سطح الأرض، لكن ما يحدث أحيانًا هو أن ظروفًا بصرية أو جوية معينة تجعل الإنسان يظن أنه يرى قمرين.

قد تظهر هذه الظاهرة في حالات متعددة:
عندما يكون الجو ممتلئًا بالضباب أو الغبار، فيتشكل انعكاس ضوئي.
أو بسبب الانكسار الضوئي الذي يحدث عند مرور الضوء في طبقات غير متجانسة من الهواء.
أو حتى نتيجة مشكلات في الرؤية مثل ازدواج النظر (Diplopia).

كل هذه الأسباب تجعل ما يُعرف بـ “ظاهرة القمرين” مجرد ظاهرة بصرية ناتجة عن الخداع البصري وليس حدثًا فلكيًا حقيقيًا.

كيف تبدأ الحكاية؟ من المشاهدة إلى الذهول
تخيل أنك تسير في ليلة هادئة، تنظر إلى السماء فترى قمرين مضيئين جنبًا إلى جنب، المشهد مذهل، وربما يدفعك للتصوير فورًا أو مشاركة ما رأيته على وسائل التواصل الاجتماعي، بالفعل، خلال السنوات الماضية، انتشرت على الإنترنت عشرات الصور التي يدّعي أصحابها أنهم رأوا قمرين في السماء.

لكن علماء الفلك أكدوا مرارًا أن جميع هذه الصور إما مفبركة، أو ناتجة عن ظواهر بصرية معروفة، على سبيل المثال، عندما يُلتقط القمر من خلف زجاج مزدوج الطبقة، يمكن أن ينعكس الضوء على السطح الداخلي للزجاج فيُظهر قمرًا إضافيًا وهميًا.

كما أن بعض الصور الملتقطة بواسطة الهواتف الذكية تُظهر “قمرين” بسبب انعكاس الضوء داخل عدسة الكاميرا، وهو ما يُعرف بـ الوهج العدسي (Lens Flare)، حيث يعيد الضوء الساطع (من القمر مثلاً) الانعكاس داخل العدسة فيُنتج صورة ثانية شبحية بجانبه.

الخداع البصري ودوره في ظاهرة القمرين
الخداع البصري ليس مجرد حيلة فنية تُستخدم في الرسومات أو الإعلانات، بل هو ظاهرة علمية حقيقية ناتجة عن طريقة معالجة الدماغ للمعلومات البصرية، أحيانًا، عندما تكون الإضاءة ضعيفة أو غير متجانسة، لا يتمكن الدماغ من تحليل الصورة بشكل دقيق، فيقوم بـ”تخمين” شكلها بناءً على المعلومات المتاحة.

في حالة القمر، يمكن لأي انعكاس أو انكسار للضوء أن يربك العين، خصوصًا عندما يكون القمر ساطعًا جدًا في السماء المظلمة، فتبدو الصورة وكأن هناك قمرين متشابهين في الشكل واللون، لكن أحدهما يكون نسخة وهمية ناتجة عن الخداع البصري.

من أبرز أنواع الخداع البصري المرتبطة بهذه الظاهرة:
الانكسار الجوي: عندما يمر ضوء القمر عبر طبقات مختلفة الكثافة من الهواء، ينحرف عن مساره قليلًا، مما يكوّن صورة ثانوية وهمية.
الانعكاس على السحب الرقيقة: أحيانًا، تعكس السحب العالية ضوء القمر، فتبدو وكأنها “قمر آخر” باهت إلى جانبه.
الظلال والإضاءة الصناعية: يمكن لأضواء المدن العالية أو الأبراج الزجاجية أن تعكس القمر أو تُحدث وهجًا مضاعفًا له.

الظواهر الفلكية المشابهة
على الرغم من أن ظاهرة القمرين في السماء ليست فلكية حقيقية، إلا أن هناك ظواهر فلكية قريبة منها تجعل البعض يخلط بين الواقع والوهم، ومنها:

الهالة القمرية (Lunar Halo):
وهي دائرة ضوئية تحيط بالقمر عندما تمر السحب العالية المكوّنة من بلورات الجليد أمام ضوئه. تُكسر الأشعة وتنعكس بطريقة خاصة تُظهر القمر كأنه محاط بدائرة سحرية أو قمر آخر شاحب في الأطراف.

القمر العملاق (Supermoon):
عندما يقترب القمر من الأرض في مداره، يظهر أكبر وأكثر سطوعًا من المعتاد. بعض الناس يرونه بشكل مبالغ فيه فيظنون أن هناك قمرين بأحجام مختلفة في السماء، خصوصًا عند النظر إلى صور ملتقطة من زوايا متعددة.

ظاهرة المريخ والقمر:
في بعض الأعوام، ينتشر على الإنترنت خبر زائف يقول إن المريخ سيبدو بحجم القمر، وكأن هناك قمرين في السماء. لكن هذا غير صحيح علميًا، لأن المريخ، رغم قربه النسبي، لا يمكن أن يظهر بحجم القمر للعين المجردة.

القمر والسماء: العلاقة بين الضوء والظلام
القمر لا يصدر الضوء بنفسه، بل يعكس ضوء الشمس، هذه الحقيقة البسيطة تلعب دورًا كبيرًا في الظواهر البصرية المرتبطة به. عندما تكون زاوية انعكاس الضوء مثالية، يمكن لأي تغير طفيف في الغلاف الجوي أن يُحدث وهمًا بصريًا.

مثلًا، في الليالي التي يكون فيها الغلاف الجوي محملاً بالغبار أو الرطوبة، ينكسر الضوء المنعكس من القمر بطرق مختلفة، فتظهر ظلال أو صور مزدوجة له، كما أن قرب القمر من الأفق يجعله يبدو أكبر أو أكثر تشوهًا — وهي ظاهرة تُعرف باسم “خداع القمر” (Moon Illusion) — حيث يراه الناس أكبر عندما يكون قريبًا من الأفق، رغم أنه في الحقيقة بنفس الحجم الزاوي دائمًا.

العين البشرية: آلة دقيقة لكنها محدودة
الإنسان يعتمد على العين والدماغ معًا لتفسير ما يراه، لكن هذه العملية ليست دائمًا دقيقة، العين يمكن أن تنخدع بسهولة عندما تتعامل مع مصادر ضوء قوية فى خلفية مظلمة، مثل القمر.

في بعض الحالات، يعاني الناس من ازدواج الرؤية (Diplopia)، وهي حالة طبية تجعل الشخص يرى صورتين لنفس الجسم في وقت واحد، إذا حدث ذلك أثناء النظر إلى القمر، فسيبدو كأن هناك قمرين حقيقيين، رغم أن السبب عضوي في العين أو الجهاز العصبي وليس ظاهرة فلكية.

إضافةً إلى ذلك، يمكن أن تتسبب العدسات أو النظارات غير المضبوطة بدقة في ظهور صورة مزدوجة خفيفة للأجسام البعيدة المضيئة — مثل القمر.

هل هناك احتمال علمي لوجود قمر ثانٍ فعلي؟
سؤال يطرح نفسه كثيرًا: هل من الممكن أن يكون للأرض قمر ثانٍ حقيقي؟
الإجابة العلمية: لا يوجد قمر دائم آخر للأرض، لكن هناك بعض الأجرام الصغيرة التي تُعرف باسم الأقمار المؤقتة (Temporary Moons)، وهي كويكبات صغيرة تدخل مدار الأرض لفترة قصيرة ثم تغادره.

على سبيل المثال، اكتشف العلماء في عام 2006 جسماً يُسمى “2006 RH120″، وهو صخرة فضائية صغيرة ظلت تدور حول الأرض لبضعة أشهر، ثم انطلقت في مسارها من جديد. لكن هذه الأجرام صغيرة جدًا ولا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، وبالتالي لا تفسر ظاهرة القمرين التي يراها البعض.

الإنترنت والخرافات حول ظاهرة القمرين
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الأخبار الغريبة تنتشر بسرعة البرق. في كل عام تقريبًا، تنتشر منشورات تقول: “استعدوا الليلة لرؤية قمرين في السماء!” — ويُقال إن المريخ سيبدو بحجم القمر! لكن الحقيقة أن هذه المعلومات خاطئة تمامًا.

المريخ قد يكون أكثر سطوعًا في بعض المواسم، لكنه لا يمكن أن يُرى كالقمر أبدًا. حجم القمر الظاهري في السماء هو حوالي نصف درجة، بينما حجم المريخ الظاهري حتى في أقرب نقطة له من الأرض لا يتجاوز 0.01 درجة. أي أنه أصغر بنحو 50 مرة!

إذن، كل ما يُنشر حول رؤية قمرين حقيقيين هو مجرد خرافة أو صور مفبركة، تستغل الفضول البشري تجاه الظواهر الفلكية الغريبة.

الظاهرة بصرية وليست فلكية
في النهاية، يمكن القول إن رؤية قمرين في السماء هي ظاهرة بصرية وليست فلكية.
العين قد تُخدع بسبب الانعكاس أو الانكسار أو حتى العدسات، لكن القمر الحقيقي يظل واحدًا يدور في مداره الثابت حول الأرض منذ أكثر من 4 مليارات سنة.