الذكاء الاصطناعي ومستقبل التعليم في الأردن: تحديات وطنية لصناعة المستقبل
وكالة الناس -يشهد العالم اليوم تحولاً جذريًا في منظومة التعليم، مدفوعًا بالتطورات المتسارعة في تقنيات الذكاء الاصطناعي. وفي هذا السياق، يبرز الأردن كدولة تسعى جاهدة لمواكبة هذه التحولات، من خلال تبني استراتيجيات وطنية تهدف إلى دمج الذكاء الاصطناعي في النظام التعليمي، بما يعزز من جودة التعليم ويواكب متطلبات العصر الرقمي.
في عام 2023، أطلقت الحكومة الأردنية الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي للفترة 2023-2027، والتي تهدف إلى جعل الأردن دولة رائدة إقليميًا في مجال الذكاء الاصطناعي، وتوفير بيئة تكنولوجية وريادية فريدة وجاذبة لهذه التقنيات لتكون عاملاً فعالاً وداعماً ومكوناً أساسياً في الاقتصاد الوطني. وتعكس هذه الاستراتيجية رؤية شاملة تتطلب تنفيذ مشاريع عملية ومتنوعة، حيث تتضمن 68 مشروعًا موزعة على خمسة أهداف رئيسية، تركز بشكل خاص على بناء منظومة متكاملة لدعم الذكاء الاصطناعي في الأردن، وتعزيز تبنيه في تطوير القطاع العام والقطاعات الحيوية، وعلى رأسها قطاع التعليم، الذي يعد من المحاور الأساسية في هذه الخطة الطموحة.
وفي إطار تنفيذ هذه الاستراتيجية، نظمت وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم جلسة حوارية مع الشركات العاملة بمجال الذكاء الاصطناعي في قطاع التعليم في مجمع الملك حسين للأعمال، هدفت إلى مناقشة دور الذكاء الاصطناعي في تحويل المنظومة التعليمية، والتحديات التي تواجهها، والفرص المتاحة. تناولت الجلسة أهمية الشراكة مع القطاع الخاص في دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي ضمن البيئة التعليمية، بما يتماشى مع الاستراتيجية الوطنية الأردنية للذكاء الاصطناعي والتي تسعى إلى تعزيز استخدام هذه التقنيات بشكل ممنهج ومسؤول في النظام التعليمي. واستعرضت الوزارتان عددًا من المبادرات البارزة، من بينها العمل على تطوير وإدماج الذكاء الاصطناعي التوليدي في المناهج التعليمية ابتداءً من المراحل الدراسية المبكرة، مع التأكيد على الاستخدام الأخلاقي والمسؤول لهذه الأدوات. كما تناولت المبادرات تقديم برامج تدريبية متخصصة للمعلمين تُمكنهم من استخدام أساليب مبتكرة وفعالة لتدريس مفاهيم الذكاء الاصطناعي، وذلك بالتعاون مع الجامعات والمعاهد التقنية، لضمان تأهيل الكوادر التربوية بأحدث المنهجيات التعليمية.
وفي السياق ذاته، جرى التأكيد على أهمية تحديث البنية التحتية الرقمية من خلال توفير حواسيب متقدمة، وبرمجيات تعليمية، ومختبرات افتراضية تتيح بيئة تعليمية مناسبة لتعلُّم الذكاء الاصطناعي بشكل تفاعلي وفعّال. كما شملت المبادرات تنظيم حملات توعوية تستهدف المجتمع وأولياء الأمور، بهدف رفع مستوى الوعي بأخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي والمخاطر المحتملة المرتبطة به، وذلك لضمان انخراط الأسرة والمجتمع في مسار التعلُّم الرقمي.
ومن جانب آخر، تم التأكيد على أهمية تعزيز الشراكة بين الحكومة وشركات التكنولوجيا، لدعم استخدام الأدوات الرقمية في المدارس، سواء عبر توفير المعدات أو من خلال إطلاق مبادرات تعليمية رقمية تسهم في ترسيخ ثقافة الذكاء الاصطناعي بين الطلبة والمعلمين على حد سواء.
وأمام هذا المشهد المتسارع لتطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، تبرز الحاجة إلى مقاربة شمولية تأخذ بعين الاعتبار عددًا من القضايا المحورية تتعلق بمخاطر الخصوصية الناجمة عن استخدام البرمجيات التجارية في التعليم، والحاجة الملحة لتطوير نماذج لغوية ترتكز على اللغة العربية وتعكس قيم المجتمع المحلي، إلى جانب فرص رقمنة المحتوى العربي لبناء قواعد بيانات قوية تُسهم في تطوير تطبيقات ذكاء اصطناعي أكثر فاعلية ومواءمة للسياق العربي. والانتقال من مفهوم “تدريب المعلمين” إلى نهج أكثر شمولاً يقوم على “تمكينهم” وإشراكهم الفعّال في صياغة الرؤية التعليمية للذكاء الاصطناعي، إضافة إلى التحول من مجرد “رفع الوعي المجتمعي” إلى “المشاركة المجتمعية الفاعلة” التي تضمن إشراك أولياء الأمور والمجتمع المدني في التوجيه الأخلاقي لتوظيف هذه التقنيات. مع التأكيد على ضرورة الحذر في التعامل مع الأدوات التكنولوجية المجانية المقدّمة من القطاع الخاص، والتشديد على أن يتولى خبراء التربية وضع معايير واضحة تضمن سلامة الاستخدام وفاعلية الحلول التعليمية، مع التوصية بأن يتم إدماج الذكاء الاصطناعي التوليدي في المناهج الدراسية المبكرة بشكل تدريجي ومدروس يركز على بناء ثقافة رقمية واعية، ويتم ذلك من خلال شراكة حقيقية تشمل المعلمين والمجتمع المحلي لضمان توظيف الذكاء الاصطناعي كعنصر إيجابي وآمن وفاعل في صياغة مستقبل التعليم الأردني.
في ضوء ما تقدّم، تتضح ملامح مرحلة مفصلية في مسيرة التعليم الأردني، تتطلب تكاتفاً وطنياً واعياً يعزز من جاهزية النظام التعليمي لاستيعاب تحولات الذكاء الاصطناعي وتطويعها لخدمة أهداف التنمية البشرية والمعرفية. فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية عابرة، بل هو قوة محركة لإعادة تشكيل المفاهيم والأساليب والممارسات التربوية، الأمر الذي يستدعي رؤية وطنية متكاملة توازن بين الطموح التكنولوجي والحس التربوي، وبين الابتكار والتحصين القيمي. إن الرهان على الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون رهاناً على الإنسان الأردني ذاته: معلماً ومتعلمًا وأسرةً ومجتمعًا، وعلى قدرته على التكيّف والإبداع والمشاركة في صناعة مستقبل تعليم وطني يرتكز على الهوية وينفتح في الوقت ذاته على آفاق العصر.
Top of Form
Bottom of Form