عاجل
0020
moasem
sum
003
004
006
007
008
Bash
Hofa
Diamondd
previous arrow
next arrow

د. يوسف العجلوني يكتب.. الأصول في بيوت العزاء

كتب. د. يوسف العجلوني
العزاء مظهر إجتماعي محبب يدل على التكافل والتعاضد بين أفراد المجتمع الواحد، ومشاركتهم نفس الشعور والمصاب، وله الأثر العظيم في دعم أهل المتوفَّى نفسياً ومعنوياُ والتخفيف عنهم، وفيه ترسيخ لأواصر المحبة والتواصل والشعور بين الناس.
في الماضي، عندما كانت أعداد الناس قليلة، وطرق التواصل الإجتماعي غير موجودة، والمعظم كانوا يسكنون في نفس البلدة، وكانت مشاغل الناس محدودة، كان العزاء واجب إجتماعي حتمي لمدة أيام وأكثر، وكان الناس يأتون كل يوم، وكان يُقام العزاء في بيت المتوفَّى، حيث يتذكر الحضور المتوفَّى ويحزنون عليه ويتعضون من حال الدنيا بأن كل شيء لا بُد زائل، وكانت الضيافة تقتصر على تقديم القهوة السادة فقط.
قديماً كان الأصل في العزاء هو المواساة والتضامن مع أهل الميت، فكان هذا الشعور يريحهم ويبعث الطمأنينة في نفوسهم. وكانت المشاركة العامة تقتصر على حضور الجنازة، ثم السلام على أهل الميت. وبعد ذلك، يقتصر مجلس العزاء على الأقارب والأصدقاء المقربين، ويكون محدوداً في بيت المتوفَّى أو في بيوت الجيران أو الإخوان.
في الماضي، كان العزاء له هيبة كبيرة، وكان الحزن يبدو واضحاً على أهل الميت وعلى ملامح المعزين بكل معانيه. في نفس الوقت، كان يتسم بالبساطة ويسر الأحوال.
الآن وفي بعض الأماكن تحولت فاجعة الموت إلى مناسبة اجتماعية تحتاج للكثير من المال والنفقات لسد مستلزمات الوفاة ومتطلبات العزاء وتكاليف الدفن، وإقامة بيت عزاء بنصب صيوان معتبر وفخم، أو فتح المضافة للتباهي، وإقامة الولائم وتقديم الطعام لثلاثة أيام، وقد يكون ذلك أحياناً خارج إمكانيات أهل الميت وقدرتهم، وفي بعض الأحيان، يضطر أهل المتوفَّى إلى الإستدانة ليظهروا بمظهر اجتماعي عالٍ وليتماشوا مع باقي المجتمع والعادات الدارجة.
أصبحت كذلك الآن مبالغة كبيرة وغير محببة في مراسم الجنازة، أحياناً بتأخيرها انتظاراً لشخصيات عامة هامة، وتصنيفات بيوت العزاء لمستوى يليق بالمتوفّى، وتصنيفات المعزين الطبقية، وحجم ومستوى الاستقبال من أهل المتوفّى، حيث يتنادون عند وصول شخصية مهمة، ويتركون أقرب الأصدقاء من المعزين على أمل العودة إليه لاحقاً، ليرافقوا القادم المهم، ويفرغون له مكاناً خاصاً من المقاعد المخصصة لكبار الزوار. وقد لا يجد أقرب المعزين والمحبين للمتوفّى من الطبقة الفقيرة كرسياً، سوى في الزاوية الجانبية ويخرج دون أن يودعه أحد، سوى الواقفين حكماً عند الباب من عامة العائلة.
بعض الذين يذهبون للعزاء يعتبرون حضورهم مهماً، ولا يجلسون إلا في صدر بيت العزاء، وغير ذلك يعتبرونه تقليلاً من شأنهم وقدرهم، ويبدأون بإرسال التحايا عن بعد للموجودين، وينتظرون قيام الناس بالتوجه إليهم للسلام عليهم ويتفاخرون بذلك، ويشعرون بنشوة النصر والوجود المميز بين الناس، متناسين أن هذا هو بيت عزاء، ويجب أن يكون فيه التواضع والإيمان واليقين أن كل من عليها فان، وأن هذا المكان ليس للمفاخرة أو إظهار الأهمية أو الجاه بل للمواساة والإعتبار من مصيبة الموت وآخذ العبرة.
كثير من بيوت العزاء أصبحت عبئاً مادياً وفيها من البهرجة والنفاق الإجتماعي ما لا يقبله المنطق، وانتشرت المراسم والطقوس التي تركز على المظاهر الدنيوية المزيفة الزائلة، والإهتمام المُبالغ فيه بنوعية وعدد المعزين، وما يُقدّم لهم من نوعية التمور والمياه وعدد الكراسي ونوع الصيوان، وعدد أيام العزاء وعدد الخدم الذين يضيفوا الحضور ويصبوا القهوة. وبذلك يصبح العزاء عبئاً نفسياً وجسدياً ومالياً على أهل الميت.
تَحوَّل العزاء إلى ساحة علاقات عامة لقضاء الوقت، والتعرف على الناس، والإلتقاء بالمهمين من أصحاب المناصب، والحوار حول أمور لا تخص الميت ولا الموت، ومعظم الأحاديث المتداولة تتعلق بالشؤون الخاصة والمصالح والتجارة، والتجهيز للانتخابات على أنواعها، وتبادل الآراء والجدال، والمعاتبة والغيبة والنميمة، والبحث عن الواسطات والوظائف.
أهل الميت بعد الدفن يحتاجون للراحة الجسدية والنفسية والشفاء من ألم الفقدان، وبحاحة لعدد محدود من الأصدقاء والأقارب والناس المقربين ليشاركونهم الحزن. وليس هنالك فائدة من الجموع التي تأتي ولا تعرف الميت ولا أهله ولا بيته. فنلاحظ في وقتنا هذا أهل الميت يضعون لوحات إرشادية ليستدل بعض المعزين على المكان، وقد تغطي هذه اللوحات شواخص المرور في الشوراع وتتسبب بالحوادث، وهنا يخطر ببال كل واحد منا عن أهمية وقيمة المشاركة في العزاء من شخص لا يعرف أين يقع بيت المتوفّى.
يقضي أهل الميت ثلاثة أيام وأكثر في الإستقبال والتوديع والتقبيل، الذي ممكن أن ينقل العدوى بين الناس التي تتوافد من مناطق وبيئات ودرجات نظافة مختلفة، حتى يصل أهل الميت إلى لحظة تعب وهم ومعاناة تكون أصعب من الوفاة نفسها.
المجتمع المثقف والدين والمنطق يقول ربما يُكتفى بالمشاركة في حضور الجنازة على المقابر، والإكتفاء بعد ذلك بيوم واحد للعزاء لمن لم يستطع الحضور للمقبرة، ويكون العزاء بعد ذلك هاتفياً أو من خلال وسائل التواصل الإجتماعي، أو عند اللقاء بالمسجد أو أي مناسبة قادمة، وذلك يكفي ويؤدي الغرض بالمواساة. في نفس الوقت فيه تخفيف على أهل الميت من النفقات المالية والأعباء الأخرى، وعدم الإثقال عليهم وتوفير الوقت والجهد على أصحاب العزاء والمعزين.
نصب وفتح صيوان في الشارع العام، وإغلاق الطريق هو عمل مؤذي للجميع. كما أن اصطفاف السيارات بدون ترتيب بأعداد مبالغ فيها، والكل يريد الاصطفاف بالقرب من موقع العزاء إن كان صيوان أو بيت أو مضافة هو شيء غير حضاري ومُرهِق لسكان المنطقة وللمارة ولمستخدمي الطريق، وقد يمنع الناس من الوصول إلى مقاصدهم التي ممكن أن تكون لعلاج مريض في مستشفى، أو أي أمر طارئ، وهذا التصرف سوف يزعج الجميع، ويجعلهم لا يفكرون بالدعاء للميت وعدم التعاطف مع أهله، وممكن أن لا يحتمل البعض هذا الإزعاج، الذي ممكن أن يؤدي إلى حدوث مشاجرات مع أهل الميت.
قراءة القرآن في بيوت العزاء إذا وقع صدفةً من غير قصدٍ، أي إذا اجتمعوا وقرأ واحدٌ منهم فلا بأس، وقراءة القران لفضله والإلتزام بما جاء فيه شيء محبب في كل مكان وزمان، وأما أن يُتَّخذ هذا نظامٌ وصورة من صور بيوت العزاء، فلا ينصح به، وليس له داعٍ في العزاء، لأن الناس جالسة تتحدث ولا أحد ينصت لقراءة القرآن، وهذا عمل منهي عنه، وكأننا نقول إن قراءة القرآن أصبحت تقليداُ مرتبطاً بالحزن والموت، ودالة على بيوت العزاء، حتى صار إذا سمع أحدنا صوت قران في منزل ما يتوقع الموت، وذلك يتنافى مع معاني القرآن والغاية منه، وممكن أن تكون قراءة القرآن في المآتم أو تشغيله بتكرار وباستمرار عبر المحطات والمسجلات مخالفة لما جاء به الشرع، لأن بعض الحاضرين لا يصغون إلى القرآن، وهذا مخالف لما جاء في القران الكريم: “وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون”. وليس من الصحيح استئجار من يقرأ القرآن وكأن قراءة القرآن تحتاج لموظف متخصص. والأهم في ذلك أن ما ينص عليه الدين هو أن القرآن يُقرأ لتعظيمه وتدبره والعمل به، ولذا إما أن يُقرأ القرآن مع التعظيم والتدبُّر والإنصات، أو لا يُقرأ.
ظاهرة قدوم واعظ إلى بيت العزاء، وقد يكون بدون إذن أو موافقة من أهل المتوفى، وفي بعض الأحيان يكون قصد الذي يخطب هو الظهور الإجتماعي أو السعي للجاه أو مصلحة دنيوية، ويقوم بخطبة عصماء، ويطلب من الناس السكوت والإنصات له بالأمر والتخجيل، ولوقت طويل وهو يسهب في الشرح والموعضة والتكرار، كما يرى هو وبطريقته التى ممكن أن تكون مستفزة أو فجة أو قاسية، ويتطرق لما يريد من مواضيع ممكن أن لا تكون مناسبة للمكان، ويظن أنه يوعّي الناس بأمور دينهم، وانه أهلاً لذلك، والمصيبة عندما لا يكون ذو معرفة بأصول الدين، ويجهل العلم الشرعي وآداب الجنازة، ويبدأ بالافتاء والنصح والتشديد على الناس، ويتجاهل أو لا يعرف أن بيوت العزاء ليس المكان المناسب للخطب أو إلزام الناس بالاستماع، الأمر الذي من شأنه أن يدفع البعض للتوقف عن آداء واجب العزاء.
ظاهرة التسول في بيوت العزاء، التي انتشرت مؤخراً، هي استغلال للعواطف والأحزان؛ ممكن أن تدخل سيدة وتتوجه لأصحاب العزاء بالدعاء لفقيدهم وتعداد صفاته ومناقبه، وهدفها الحصول على المال، وهذه ظاهرة مرفوضة دينياً واجتماعياً. ونلاحظ كذلك التسول على المقابر أيضاً، الأمر الذي يسبب الإزعاج والإحراج لأهل المتوفى وجميع الموجودين، لأن الناس تكون بأشد الحزن ومنشغلة في إجراءات الدفن وترتيب أمور تقبل العزاء ، لذلك يجب على المجتمع أن يتكافل مع بعضه البعض لمواجهة هذه الظاهرة وإنهائها، ولا بد من أن يكون لدى الناس الوعي الكافي للتعامل مع هؤلاء المتسولين، حيث أن التغافل عنهم وعدم ردعهم هو تشجيع لهم في الإستمرار والتمادي في هذا العمل المزعج والذي ليس مكانه أو وقته.
هنالك بعض الناس يرتاد بيوت العزاء للقيام بالسرقة والإختلاس، حيث يكون الناس منشغلين بالحزن والصدمة وتلقي التعازي وتقديمها، فيكون بذلك استغلالاً للموقف، وخصوصاً في مجالس النساء، حيث تترك بعضهن حقيبتها أو تغفل عنها، فيتم اختلاسها أو سرقة ما فيها. وهذه حالة تتكرر.
المبالغة في تقديم الضيافة من القهوة والشاي والتمر والكنافة وإعداد الولائم للمعزين، ليس لها أصل شرعي، وهي عادات فقط اعتمدت على البيئة التي خرجت منها، والأفضل أن تُنفق هذه التكاليف، إن كانت الأحوال ميسورة، لتكون صدقة عن الميت، ويجب الحد من الأعراف الخاطئة التي تجاوزت حدود الشرع والعقل وإمكانيات الناس وقدراتهم.
يجب أن يعلم الناس أن كل ما يحتاجه المتوفَّى من أهله هو تجهيزه ودفنه، وتسديد ديونه وتنفيذ وصيته الشرعية إن وجدت، ولا داعي إلى الإسراف والتباهي والتفاخر والمقارنة وتسجيل الأسماء لمن حضر، والعتب والزعل على من لم يحضر، ويمكن أن تكون قطيعة بسبب ذلك، ولا داعي أن تكون مصيبة الموت والعزاء تخضع لقاعدة “قرضة ودين”.
الأصل عند حدوث حالة وفاة، أن يقوم الأقارب والأصدقاء بمساندة ومساعدة أهل المتوفى، ودعمهم بتوفير مستلزمات العزاء، وتقديم الطعام والتخفيف عنهم، والوقوف إلى جانبهم. ومن الأصول أيضاً منح أهل المتوفَّى قسطاً من الراحة، وذلك من خلال اقتصار العزاء على يوم الدفن ويوم آخر فقط ليتمكن من لم تسمح ظروفه بحضور الدفن لتقديم واجب العزاء، وهذا فيه تيسير على الناس وعلى أهل الميت، ومنحهم الوقت الكافي لقضاء أشغالهم، وإدارة أعمالهم، وقضاء حاجاتهم.
د. يوسف العجلوني