حتى العصافير تغيّرت
قررت أول أمس أن أخلع من عمري عقدين..وأتسكّع كما كنت بين الحارات والزواريب الضيقة ، أن أطرح التحية على الجالسين أمام بيوتهم وقت المساء ، على القواعد من النساء اللاتي يُمعنّ التفرّس بالوجوه على وقع حبّات المسبحة..على الاطفال الذين يلعبون «السبع حجار»، على الجار الذي يجالس الجار..لكن كلما قرصت الطريق أطراف أصابعي أوغلت عيناي في الوحشة .. فكل شيء بدا صامتاً مغلقاً مبهماً ، مثل لوحة على جدار…
**
بين الحارات ..لم أر صبية واحدة تترك النافذة مواربة لترى المحبوب ، او سيدة تقطب وجه «المخدّة « على درجات الدار..أو «زرّيعة» تندلق حزناً على الغروب ، لم أر أولاداً تتناوب على ضربات الجزاء أو حارس مرمى من غير حذاء ..
لم أر ذلك «الحجي» الذي يرتدي فروته بين العشب مراقباً خرافه السبعة..ولا ذلك الطفل الذي نسي من فرطِ اللعبِ على خدّه دمعة..لم أر الفرْشات المنشورة على «البلاكين» ، ولم أشاهد الجولة التقليدية لدجاجات «أم أسماعين»..لم أسمع صوتاً «للتراكتر» أو الحظ على الحيطان القديمة عفناً «أخضر».. لا دولاب مثقوباً قرب الباب، لا «جنط للبكم» ، لا حطباً قرب الطابون ولا حطّاب..
بين الحارات..بحثت عن كل الذين اشتهي رؤيتهم فلم أجد..عن دكّانة معتمة تبيع «بزر البطّيخ «بالحفنة..عن امرأة تَسْربُ على ركبتها القمح استعداداً «للطحنة»..عن تسعينية تلم بأصابعها عروق «الكزبرة»..وتقول عن عمرها الطويل ما «أقصره»!!..عن «فرّان» يحضّر لعجنة الغد..عن عاشق تجمّدت أصابعه عند عبارة «أما بعد»…عن لملمة الغسيل من الحبال …عن تثاؤب «الصيرة» بأجراس «الحلال»..عن ضوء الجامع الكبير ، عن صوت الريح و بعض الصفير…عن ولد يضرب بشبابته عمود الكهرباء فيطرب المساء…بين الحارات بحثت عن وطني القديم المخبأ في ريش قُبّرة ..النابت على ضفاف مقبرة ..المطوي في أكمام الغيوم، المعلّق على مشاجب الهموم…فلم أجد..
بين الحارات بحثت عن «سنونوة» ما زالت تجيد الزقزقة…وتخيط عند الغروب قميص السماء الأزرق..كنت أبحث عن «سنونوة» لم تغيرها الأيام او تحبطها البيوت المغلقة…
في زمن النوافذ «المسكّرة» ..في زمن «الكمكرة»…حتى العصافير تغيّرت..وصارت تقرأ السماء «سايلنت ريدنج»..وتطير حسب «المفكّرة»..