فنون حياكة كسوة الكعبة المشرفة والزخارف المكية تزدهر في قرية مصرية
وكالة الناس – فنون حياكة كسوة الكعبة المشرفة والزخارف المكية تزدهر في قرية مصرية
منذ اللحظة الأولى لدخولك ورشة كسوة الكعبة بقرية شما مركز أشمون بمحافظة المنوفية المصرية، تشعر كأنك انفصلت عن عالمك ودخلت عالما آخر.
عالم كل مكوناته خيط وإبرة وصمت رهيب، وأنامل كأصابع السحرة تتحرك بخفة خاطفة كأنها تلاعب النار، وعيون سرقت الدقة ضياءها، ومكان يبدو كالمحراب يملؤه السكون، لا صوت فيه ولا حركة، وكأنك فجأة قد دلفت إلى عالم من عوالم ألف ليلة وليلة.
طاولة بطول 6 أمتار تشغلها لوحات الآيات القرآنية وبكرات من خيوط القصب والنحاس والفضة، وأشخاص لا يشغلهم ولم يلههم شاغل عما بين أيديهم، يد تخطف الإبرة ويد تمسك ببكرة النحاس وترى النحاس يلمع بين أيديهم وهم يطرزون كسوة الكعبة، غرزة غرزة، في عمل لا يحتمل الخطأ.
لم يكن صاحب الورشة الحاج أحمد خليل موجودا، فكان للجزيرة نت اللقاء مع فناني أو “قصبجية” السيرما، نسبة إلى خيط القصب، الفنان أنور غنيم وسمير علي محمد أبو العينين عيد غنيم وأحمد نوح وسلامة غنيم.
الخشخانة
يقول الفنان “القصبجي” أنور غنيم، “أعمل في هذه المهنة منذ صغري، ولي فيها 28 سنة لم أنقطع عن العمل يوما واحدا، ومنذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي لم تعرف قرية شما فن الخشخانة أو السيرما لصناعة نماذج طبق الأصل من كسوة الكعبة، حتى استطاع الشيخ أحمد غنيم أن يجذب اهتمام بعض الشباب الذين استهواهم العمل وتتلمذوا على يديه، حيث كان يعمل في ورش مشهورة بالحسين والوايلي ومصر الجديدة بالقاهرة”.
ويضيف غنيم للجزيرة نت، “في بداية التسعينيات بدأت حرفة الخشخاني تنتشر رويدا رويدا، مع وجود المستورد الهندي قطب نور الدين الذي كان يأتي بخامات الخشخانة من الهند بأسعار جيدة، ثم تطور العمل وانتقل العمال المهرة إلى شغل “القصب” و”الفتيلة” الذي استمر حتى العام 2017 تقريبا، وكان يعتمد بشكل أساسي على فن “الكنتر” لتصنيع رتب الجيش المختلفة، ثم انتقلنا إلى فن السلك”.
وفن “السلك” أنواع، النحاس والفضة والفضة المطلية بالذهب، ومنه طرازان، “العثماني” الخاص بكسوة الكعبة القديمة منذ عهود السلاطين العثمانيين، و”المكي” وهو الذي بدأ مع العام 1963 عندما أنشأت السعودية مصنع كسوة الكعبة.
تجارة رائجة
أما فيما يخص مراحل العمل في الورشة، يقول الفنان “القصبجي” سمير علي “يبدأ العمل لدينا في الورشة من خلال الرسمة المطلوب تنفيذها، حيث يقوم الخطاط عليوة الحاصل على إجازة في فن الخط، برسم اللوحات “العثماني”، ويتخصص الخطاط عبد المنعم أبو يوسف برسم اللوحات “المكي”، لعمل تذكارات سياحية مطابقة لقطع كسوة الكعبة توزع في دول الخليج وتركيا وبعض الدول الأوروبية وأميركا”.
ويتم تصنيع ثوب الكعبة المشرفة في مجمع الملك عبد العزيز لكسوة الكعبة المشرفة، موزع على 54 قطعة قماش بعرض 95 سم، ومقاس كل قطعة 14 مترا طولا بارتفاع الكعبة نفسها، قبل أن يتم وصلها ببعض لتمثل كسوة الكعبة، وتزن حوالي 850 كيلوغراما.
يقول علي “نقوم في الورشة بتصنيع كسوة الكعبة بنفس الخامات بعدة نماذج مختلفة حسب الطلبيات الموصى بها، سواء كانت بالقصب أو الفضة أو الفضة المطلية بالذهب. ونقوم بتطريز الكسوة بالكامل بكل أجزائها، حتى أن القصبجي في الورشة يحفظ جيدا عدد القطع وطولها وعرضها وشكل الخط، والآيات القرآنية بالكامل، وأما حزام الكعبة فيبلغ 16 قطعة، يتم تطريزها وزركشتها بالآيات القرآنية بخط الثلث البارز بمقدار سنتيمترين تقريبا، وأما الزخارف الهندسية والنباتية تكون بأسلاك بالفضة أو الفضة المغطاة بالذهب”.
ويضيف سمير علي “يبلغ طول حزام الكعبة 47 مترا ويغطي جهات الكعبة الأربع، وعرضه حوالي 98 سنتيمترا، والحزام يثبت على ثوب الكعبة في ثلثها العلوي، على ارتفاع حوالي 9 أمتار”.
الحرف الشريف
ويستطرد قائلا، “يتم أيضا توزيع الآيات على حزام الكعبة على كل القطع من الجهات الأربع، وتوجد قطعتان في كل اتجاه، مثلاً: الجهة الشمالية قوله تعالى ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾، والقطعة الثانية قوله تعالى ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾”.
ويستكمل محمد أبو العينين الحديث حول ستارة باب الكعبة، “الستارة أو ما يطلق عليه البرقع أيضا من الحرير المصبوغ باللون الأسود، وتتكون من 5 قطع يوصل بعضها ببعض لتشكل الستارة التي نراها على باب الكعبة، وهي مكتوبة ومزركشة بأسلاك الفضة المغطاة بالذهب وبأسلاك الفضة الخالصة، وحددت جميع إطاراتها بأسلاك الفضة”.
ويشير أبو العينين إلى أن كل الشغل المكتوب على الحزام وعلى الأبواب، من 1963 وحتى الآن، هو أشكال واحدة لا تتغير للخطاط عبد الرحمن أمين عبد الله بخاري المعروف بعبد الرحيم أمين (1335هـ-1420هـ) خطاط كسوة الكعبة المشرفة وواضع خطوط بابها والمدون اسمه عليها حتى الآن.
وتوجد 4 صمديات على كسوة الكعبة، و16 قنديلا مثلث الشكل مكتوبا فيها بخط مزخرف “يا حي يا قيوم”، “يا رحمن يا رحيم”، “الحمد لله رب العالمين”، “الله أكبر”.
انحسار العثماني لصالح المكي
وتغير تصميم ستارة باب الكعبة من العثماني إلى المكي في عهد الملك السعودي الراحل خالد بن عبد العزيز، وستائر الكسوة عددها 8 ستائر من الحرير الأسود (الكمخ) المكتوب بالنسيج في كل مكان منه “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، في حين تتكون الستائر من 62 ثوبا، طول كل ثوب متران، وعرضه 90 سنتيمترا، وجميعها مغطى بالحرير الأسود المفتول، ومبطن بالبفتة البيضاء وبها جميعا أحبال وعراوي تربط منها، بحسب أبو العينين.
ويستكمل أحمد نوح الحديث ويقول “الكتابات الموجودة على ستارة الكعبة مستطيلة الشكل محاطة من جوانبها الأربعة ببرواز مزخرف، بداخله برواز آخر مقسم إلى مستطيلات بيضاوية ودائرية، الدائرتان اللتان في الطرفين مكتوب فيهما عبارة (الله ربي) وفي الدائرة الوسطى مكتوب (حسبي الله)، ومستطيلان مكتوب في إحداهما الآية القرآنية (قد نرى تقلب وجهك في السماء)، وفي الثاني (فلنولينك قبلة ترضاها) ومكتوب في المستطيلات البيضاوية فاتحة الكتاب، وفي أعلى الستارة داخل مستطيل بيضاوي قال تعالى (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) و(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)، وفي السطر الذي يليه 4 دوائر كتب في إحداها سورة الإخلاص”.
وللكعبة عدة أبواب، منها، باب الكعبة العثماني مختلف الأشكال، وكل باب على اسم سلطان من السلاطين العثمانيين، ثم باب الأسماء وهو مطرز بأسماء الله الحسنى من على أطرافه، وباب جلدة الكتاب، وهو باب خاص بالسلطان عبد الحميد، بحسب أحمد نوح.
وعن مراحل العمل، يقول غنيم “نقوم بالعمل على المنسج الذي حل محل النول القديم، والذي يشبه مائدة السفرة ولكن على أشكال كثيرة تتراوح من متر ونصف إلى 6 أمتار، ونشد عليه ظهر الكسوة، وهو غالبا من قماش البفتة البيضاء أو قماش الدمور، ونلصق بها قماشة الكسوة بطبقة من النشاء، وهي نفس قماشة كسوة الكعبة ذات اللون الأسود، ونطبع اللوحة التي خطها الخطاط على (كلك وزنكة) طباعة، ونطبعها على قطعة كرتون، بالمقص نبدأ في تفريغ اللوحة من خلال الخط المطبوع، وهذه المرحلة تسمى التعريش، وتبقى الرسمة ونلصقها بالقماش، ويبدأ الشغل اليدوي بالإبرة غرزة بعد غرزة بخيوط “السدى” حتى تبرز اللوحة، ثم غرزة السلك فوق السدى ليظهر الشكل النهائي للوحة”.
مهنة تحتضر
ويقول أنور غنيم “تحتاج السيرما إلى الدقة والمهارة العالية والصبر، فلوحة كسوة واحدة لباب عثماني مساحته 360 في 620 سنتيمترا، أو باب مكي 320 في 630 سنتيمترا يستغرق العمل فيه 4 محترفين وبشكل مستمر، من 3 إلى 4 أشهر”.
ويختم غنيم، “كان العمل في فنون السيرما فاتحة رزق للكثير من أهالي القرية، حتى وصل عدد العمال المحترفين إلى أكثر من 3 آلاف عامل في الورش أو في البيوت، واستطاعت المرأة أن تثبت وجودها وبرعت في هذا الفن بمهارة عالية، ولكن الآن عدد العاملين في فن السيرما بالقرية تقلص إلى حوالي 400 شخص فقط، وذلك لعوامل كثيرة، منها ارتفاع أسعار الخامات وصعوبة تسويق المنتجات، مما جعل الكثيرين يحجمون عن العمل في منتجات السيرما، التي لو اهتمت به الدولة وشجعته لأصبح بندا مهما من بنود التصدير المصري للخارج”.