لهذه الأسباب لا نمل أبدا من جون ويك
وكالة الناس – قاتل محترف متقاعد، يبتعد عن عالم الجريمة، لكن الظروف تجبره على العودة إلى هذا العالم سعيا للانتقام ممن قتل كلبه الأليف. تبدو للوهلة الأولى حبكة ساذجة، لكنها كانت كافية لصناعة واحد من أشهر وأنجح سلاسل أفلام الحركة والإثارة على الإطلاق، وهي سلسلة “جون ويك” (John Wick)، للنجم المحبوب كيانو ريفز، والتي صدر الجزء الرابع منها مؤخرا وحقق نجاحا كبيرا على المستويين الجماهيري والنقدي.
منذ صدور الجزء الأول في عام 2014 بدا من الواضح أن هذه السلسلة جاءت كي تصنع أسلوبا جديدا ومختلفا في عالم أفلام الحركة عما اعتادته هوليوود، بقصة بسيطة لكنها مشوقة، وبطل مميز أقرب لأبطال الأساطير، وصورة سينمائية غير مسبوقة، لمخرجين أثبتا جدارتهما في عملهما الإخراجي الأول. لذلك سرعان ما تتابعت أجزاء السلسلة منذ نجاح فيلمها الأول، ليصدر الجزء الثاني عام 2017، ثم الثالث عام 2019، وأخيرا الجزء الرابع في مارس/ أذار الماضي.
مقتل الكلب الذي أشعل الأحداث
بدأ الجزء الأول بتعريفنا بجون ويك، قاتل محترف لا نعرف كثيرا عن ماضيه، يعيش مع كلبه المحبوب، بعد أن رحلت زوجته. تقتحم مجموعة من رجال العصابات الروس بيته ويقتلون كلبه بوحشية ويسرقون سيارته المفضلة، ومن هنا، من هذا الحادث الذي قد يبدو بسيطا، ينطلق جون ويك في رحلة يحركها الانتقام، وتستمر في 4 أجزاء مليئة بالإثارة، ينتقل فيها سعيا وراء أعدائه في عالم الجريمة والعنف بكل ما فيه من إثارة وسحر. تستمر ثيمة الانتقام بشكل أساسي، مع تنوع واختلاف الأشرار الذين يضطر ويك لمواجهتهم.
ثيمة الانتقام، والحزن الذي يقبع في قلب جون ويك بوصفه رجلا خسر كل شيء، وأول تلك الأشياء هي المرأة التي أحبها (لدرجة ترك عالم الجريمة من الأساس)، هو ما يحرك الأحداث بهذا الصدق. وعلى الرغم من أن عالمه يختلف تماما عن عالمنا، نحن المشاهدين العاديين الذين نذهب إلى أعمالنا الروتينية ونعود إلى منازلنا، إلا أن جوهر أزماته هو الفقد والخِذلان والألم، وكلها مشكلات واجهناها جميعا بدرجة أو بأخرى (1).
يؤدي ذلك كله إلى خلق مأساة شاعرية لا يمكنك تجاهلها في قلب ثيمة الانتقام، على مدار الأجزاء الأربعة سنتذكر دائما أن ويك لم يكن يرغب في هذه الحياة، وكل ما أراده هو العيش في سلام وتخطي حياته السابقة، لكن بشكل أو بآخر يطارده مصيره، وتحوله الأحداث إلى رجل لا يسعى سوى للانتقام.
قبل إصدار الفيلم، ساورت الشكوك المنتجين حول دافع الانتقام، حيث أراد مديرو الإستوديو استبدال قتل الحيوان الأليف بعائلة جون، بحيث يسعى للانتقام لموت عائلته، لكن ذلك بدا تقليديا ومشابها لعشرات الأفلام وقصص الانتقام التي شاهدناها من قبل، لكن أن تدور دائرة الانتقام بهذا الشكل من أجل كلب البيجل اللطيف هو ما جعل جون ويك فيلما مختلفا ولا يمكن التنبؤ بأحداثه، ولحسن الحظ تمسّك صُنّاع الفيلم بذلك الخط.
تصميم الحركة.. طفرة غير مسبوقة
بالإضافة لذلك، نجح ستاهلسكي في الاعتماد على التصوير الحي أو ما يُعرف بالمؤثرات العملية (practical effects)، وهو ما يعني أن كل ممثل يحتاج بالفعل إلى التدريب على فنون القتال واستخدام الأسلحة لأداء مشاهد القتال الحية التي يتجاهل فيها المخرج إغراء استخدام الشاشة الخضراء، فما نراه على الشاشة ليس مجرد مشاهد قتال تعتمد على لقطات قصيرة متتابعة، ولا تعتمد على استخدام الحاسوب أو ما يعرف بـ”computer-generated imagery” أو “CGI”، بل مشاهد مصممة بعناية وبمصداقية تمنح مشاهديها أقصى درجات الإثارة (2).
واحدة من أهم الميزات الفريدة في السلسلة هو تأثر تصميمات الحركة والقتال بعدد كبير من الأساليب القتالية المختلفة من جميع أنحاء العالم، فمن الناحية الإخراجية، يدمج الفيلم تأثيرات سلسلة أفلام الماتريكس، التي قام ببطولتها ريفز أيضا، مع تأثيرات أفلام الحركة الآسيوية لنجوم مثل جيت لي وجاكي شان.
ويمكن تصنيف السلسلة بشكل عام تحت نوع “النيو نوار”، وهو مصطلح يشير إلى نوع من الأفلام السينمائية الحديثة التي تستخدم بشكل بارز عناصر “السينما المظلمة”، ولكن مع تحديث المواضيع والمحتوى والأسلوب والعناصر البصرية. لكن نلاحظ إلى جانب ذلك في جون ويك العديد من التأثيرات لأفلام الحركة الكلاسيكية، بداية من الويسترن سباغيتي (مجموعة أفلام الغرب الأميركي) مثل “The Good, The Bad and the Ugly”، وفيلم “The Killer” الصيني وكلاسيكيات المخرج الفرنسي جان بيير ميلفيل، حتى إن الملهى الليلي الذي يظهر منذ الجزء الأول من الفيلم يحمل اسم الدائرة الحمراء تيمُّنا بفيلم “Le Cercle Rouge” لميلفيل.
لذلك يصعب تصنيف السلسلة بشكل دقيق، فهي تجمع بين أفلام النوار والسباغيتي ويسترن وأفلام الحركة والجريمة والإثارة، لكنها في المجمل تقع ضمن نوع “جن-فو” (gun-fu)، الذي أسس له جون وو (وهو مخرج أفلام ومنتج وكاتب سيناريو ومونتير صيني) في أفلامه عبر اتباع نهج كلاسيكيات أفلام الكونغ فو مع إدخال الأسلحة، يتضح ذلك في أفلام مثل “Hard Boiled”، الأسلوب نفسه استخدمته بعد ذلك أفلام مثل “The Matrix Resurrections”، كما ظهر في فيلم مثل “kill bill” ووصل في فيلم جون ويك إلى درجة غير مسبوقة من التوازن.
التأثيرات لا تقتصر على تلك الأفلام الكلاسيكية فقط، بل تمتد أيضا إلى الأساطير اليونانية. في حوار صحفي لتشاد ستاهلسكي عام 2022، ذكر أنه يستحضر دائما في جون ويك البطل اليوناني أوديسيوس، الذي غادر المنزل لحرب طروادة، وضل طريق العودة إلى وطنه، مواجها العقبة تلو الأخرى (3).
كل ما سبق أسهم في نجاح هذه السلسلة، حيث أدى تنوع المرجعيات البصرية إلى منح الفيلم أسلوبا فريدا، وبينما تقع أغلب أفلام الحركة في فخ تباين المستوى، خاصة مع تعدد أجزائها، إلا أن سلسلة جون ويك احتفظت بقدرتها على تحقيق نجاح أكبر في كل جزء عن الأجزاء السابقة.
عالم مميز
يدخلنا الجزء الأول إلى عالم جون ويك مباشرة، فنحن لا نعرف الكثير عن ماضيه، ولا عن خلفيته بصفته قاتلا محترفا، وهو ما يعد ضربة ماهرة من الكاتب، فهذا الغموض يمنحه المساحة والحرية للعودة إلى الوراء وملء الفجوات، وإضافة المزيد من الشخصيات، فيتسع عالم جون ويك في الأجزاء التالية لاستيعاب المزيد من تفاصيل ذلك العالم، الذي امتاز بقواعده الدقيقة والصارمة.
امتاز عالم ويك أيضا بتقديم عدد من الشخصيات الداعمة المرسومة بدقة، التي يتعرف إليها المشاهدون ويرتبطون بها في كل جزء. وجاءت الحبكة بسيطة للغاية بلا تعقيدات، بطل رائع ودافع انتقامي، واحتفاء مطلق بالتخلص من الأشرار أمامك، هؤلاء الذين يُذكِّرونك بكل الأشرار الذين لا يمكنك الخلاص منهم في الحقيقة، ألا يمنحنا هذا نوعا من التطهر والشعور بالخلاص ولو لساعات قليلة (4)؟!
كان لريفز الكثير من الملاحظات حول السيناريو، وعمل مع الكاتب ديفيد كولستاد على تشكيل الشخصية وإدخال العديد من التفاصيل إليها، ومن أجل الاستعداد للفيلم أمضى ريفز شهورا في التدريب، فقد صمم مخرجو الفيلم على ألا يعتمد على خبراته السابقة بفنون الدفاع عن النفس في الفيلم، وبدلا من ذلك تعلم العديد من طرق القتال الجديدة (5).
جاءت نهاية الجزء الرابع مقلقة للمتابعين خشية أن يكون جزأه الأخير، لكن مؤخرا أُعلن عن وجود جزء خامس، بالإضافة إلى عدد من المشاريع المنبثقة عنه، والمبنية على الشخصيات الثانوية، أبرزها فيلم باليرينا، المنتظر صدوره في العام المقبل، ومسلسل قصير يحمل عنوان “The Continental” قيد الإنتاج.