“ثقوب سوداء أقدم من عمر الكون نفسه”.. هل نشأ كوننا من بقايا كون سابق؟
وكالة الناس – ماذا لو كان كوننا قد نشأ من كون آخر سبقه؟ خلال قرابة ثلاثة أرباع قرن كانت هذه الفرضية محط اهتمام العلماء، ويبدو أننا على مقربة من التوصل إلى دلائل على صحتها، لكن لفهم الأمر من بابه لجأنا إلى برنارد كار، وهو أستاذ فخري للرياضيات وعلم الفلك في جامعة كوين ماري بلندن، وهو واحد ممن عملوا في مركز هذه الفرضية لمدة أكثر من نصف قرن، ليشرح لنا قصتها ومآلاتها، في مادة دسمة لكنها يسيرة قدر الإمكان، ستفتح لك بابا للغوص في باطن علم الكونيات الممتع والمثير.
قبل 50 عاما تقريبا، عندما كنت طالب دكتوراه، كتبت مقالا في هذه المجلة “نيوساينتست” عن وفرة البراهين التي تُثبت وجود الثقوب السوداء، وهي مناطق في الفضاء تكون فيها الجاذبية شديدة القوة بحيث لا يمكن للضوء التملص من قبضتها. وأسفر مسعاي منذ ذلك الحين عن الكثير، فلم يعد يساورنا أدنى شك اليوم إزاء وجودها، ولم يعد يغيب عن أحد أنها تتشكَّل من بقايا النجوم المُنهارة، وأن الثقوب السوداء العملاقة تقع في مراكز المجرات، وقد سبق والتقطنا حتى صورة لاثنين منها. لكن في ذلك المقال الذي كتبته حينذاك، ذكرت أيضا بعض الاحتمالات التكهنية التي تشير إلى أن ثقوبا سوداء دقيقة الحجم ربما تكونت في بدايات نشأة الكون، أي بعد فترة وجيزة من الانفجار العظيم.
بدأت العمل على هذه الفكرة تحت إشراف عالم الفيزياء الفلكية ستيفن هوكينغ، الذي بدأ يجتر أفكاره عن هذه الاحتمالية أيضا قبل بضع سنوات فقط. حدد عملنا معا مسار حياتي المهنية التي كرّستُ الكثير منها في سبيل دراسة ما نسميه الآن “الثقوب السوداء البدائية” (primordial black holes). ومع ذلك، ما زال يغشى فهمنا ضباب حول هذه الثقوب، لكن ثمة أسباب وجيهة لاعتقادنا بأنها قد تشكَّلت في الكون المبكر، وربما لا يزال بعضها موجودا حتى يومنا هذا، والأمر الأشد إثارة للانتباه هو أن وجودها قد يُفضي إلى إجابات عن مجموعة كاملة من الألغاز الكونية التي لا سبيل لفك شفرتها.
انفجرت في رأسي مؤخرا خواطر متلاطمة، وبت مهتما باحتمالية أشد غرابة، وهي أن بعض الثقوب السوداء قد تكون أقدم من عمر الكون نفسه. صحيح أنها تبدو فكرة جامحة، لكنها ليست مُستبعَدة، وهو ما يُعَدُّ طفرة من شأنها أن تغيِّر فهمنا لعلم الكونيات تغييرا جذريا. يرى معظم علماء الكون أن المواد والطاقة التي تتغلغل إلى جميع أنحاء الفضاء قد انبثقت إلى الوجود في لحظة واحدة قبل 13.8 مليار سنة، وهي اللحظة التي أطلقوا عليها “الانفجار العظيم”. تلا الانفجار العظيم مرحلة تَلَمَّس فيها الكون طريقه إلى شكل جديد ونما بسرعة هائلة عُرفت “بالتضخم الكوني” (Cosmic Inflation)، وهي مرحلة تبنَّاها الكون قبل أن يتبع في توسعه نهجا أكثر اعتدالا. (المترجم: يشبه توسع الكون أن ترسم مجموعة من النقاط على بالون قبل نفخه، ثم بعد ذلك ينفخ البالون فتلاحظ أن النقاط تبتعد عن بعضها، ليس لأنها تجري بسرعة ولكن لأن البالون نفسه يتضخم، الكون كذلك، المجرات تبتعد عن بعضها، ليس لأنها تجري مبتعدة بل لأن الكون يتوسّع).
المشكلة التي تتخلل هذه الصورة هي أننا لا نعرف على وجه اليقين ما حدث بالضبط لحظة الانفجار العظيم (أو ما الذي دفع الكون ليبدأ بالتضخّم). غالبا ما يشير العلماء إلى أن كوننا انبثق من نقطة أصل تسمى المتفردة أو الشذيذة (Singularity)، وهي نقطة تتميز بكثافتها وجاذبيتها اللامتناهية، وتنهار عندها جميع قوانين الفيزياء، حتى نظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين -التي تُعَدُّ أفضل وصف لدينا للجاذبية- تنهار عند هذه النقطة، ما يجعل وصفها بالمعادلات المعتادة التي تفسِّر الواقع صعب المنال، وفهمها أقرب إلى المحال.
دفع هذا بعض علماء الكونيات إلى التكهن بأن الكون بدأ بارتداد كبير، فبدلا من ظهور كل شيء إلى الوجود في لحظة واحدة، فإن نظرية الارتداد العظيم تشير إلى أن كوننا نشأ نتيجة لكون سابق قد انهار وبدأ في التوسع مرة أخرى (بمعنى أن الكون الذي سبق كوننا ذهب إلى حالة انكماش حتّى نقطة معيّنة في الانفجار العظيم بالنسبة لنا، بعدها أخذ بالتوسّع مرّة أخرى، مؤدّيا بذلك إلى كون جديد، وهو كوننا). تُعَدُّ نظرية الارتداد العظيم أشبه بالانفجار العظيم لكن بدون متفردة، باعتبار أن الكون لديه دائما كثافة محدودة (عكس المتفردة التي تتميز بكثافتها اللامتناهية).
يتوافق سيناريو “الارتداد العظيم” مع محاولات معينة لتوحيد قوانين الفيزياء، من بينها نماذج علم الكون الكمّي، والجاذبية الكمّية الحلقية (وهي نظرية تحاول دمج ميكانيكا الكم مع النسبية العامة)، فضلا عن بعض النظريات البديلة للجاذبية. إذا نشأ كوننا من ارتداد، فمن المنطقي أن يحيق به المصير ذاته الذي حاق بما قبله وينتهي به المطاف بالانهيار. هذا النوع من الارتداد المتكرر -الذي يمر فيه الكون بفترات من التوسع والضغط- يُسمى بالكون “الدوري” أو “التعاقبي”. غير أن هذه النظرية يمكن أن تكتسي قدرا معتبرا من المنطقية فقط إذا كان مقدّرا للكون أن ينهار، وهذا بدوره يعتمد على طبيعة الطاقة المظلمة، تلك القوة الغامضة التي تتسبب في تفكيك الكون وتباعده عن بعضه بصورة أسرع فأسرع. بيدَ أننا لو توصلنا إلى دليل على وجود هذه النماذج الارتدادية والدورية، فسينطوي الأمر على تداعيات هائلة سواء فيما يخص كيفية بدء الكون أو ما سيؤول إليه في النهاية.
لكن العثور على دليل كهذا ليس بالأمر الهيّن، لأن كل شيء كان موجودا في الكون السابق ربما تدمر عندما عصف بالكون انهيار عظيم، وذلك قد يُحيلنا إلى تساؤل أهم: هل تدمر كل شيء بالفعل في تلك اللحظة، أم أن ما تمخض عن هذه العملية لم يكن بهذه الصورة؟ في اعتقادي أن ثمة فرصة نجاة لبعض الثقوب السوداء التي واصلت سعيها من كون سابق متلمِّسة طريقها إلى كوننا الحالي وما زالت موجودة حتى يومنا هذا.
تعود فكرة أن الثقوب السوداء ربما تكوَّنت في بدايات الكون إلى أوائل السبعينيات. حينذاك، أطرقتُ أنا وستيفن متفكرين فيما إذا كانت الثقوب السوداء يمكن أن تتشكَّل من تقلبات الكثافة التي حدثت بالقرب من الانفجار العظيم. ورغم أن حساباتنا أظهرت أن ذلك ممكن بالفعل، فإننا واجهنا عائقا، لأنه قبل بضع سنوات من ذلك الوقت، أوضح الباحثان الروسيان ياكوف زيلدوفيتش وإيغور نوفيكوف أن أي ثقوب سوداء تشكَّلت في الكون المبكر من المفترض أنها ستتبنَّى وتيرة سريعة في نموها لتصل إلى كتلة هائلة اليوم، وبما أن الحسابات الدقيقة وعمليات الرصد التي يمكن أن يُعوَّل عليها استبعدت هذه الفرضية باعتبار أننا كنا لنرى آثارا لمثل هذه الثقوب السوداء الضخمة لو كانت موجودة بالفعل، فقد خلص الباحثان في النهاية إلى أن الثقوب السوداء البدائية لم تتشكَّل أبدا.
على الجانب الآخر، أثبتت ورقتي البحثية الأولى مع ستيفن هوكينغ خطأ هذه النتيجة التي توصل إليها الباحثان الروسيان، فبعد عدة أيام من عمليات حسابية مُكثَّفة، هرعتُ بحماس إلى مكتبه لإبلاغه بالأخبار السارّة التي توصلتُ إليها، وهي أن الثقوب السوداء البدائية لم تكن لتنمو بهذه الوتيرة السريعة أبدا بسبب توسع الكون، وهو ما لم يفكر فيه الباحثان. اكتشفتُ أن ستيفن أيضا توصل إلى النتيجة ذاتها بإجراء الحسابات في رأسه، وأثار ذلك تنهدات الأسى في أعماقي، لأن كلينا توصل للنتيجة ذاتها (التي اعتقدنا أنها خاطئة ولاح طيف الشك في خاطرنا بسبب العالمين الروسيين). فبعد كل شيء، يبدو أن الثقوب السوداء البدائية كانت موجودة بالفعل منذ البداية.
بعد خمسين عاما، ما زلنا لم نرَ بعد أيًّا من هذه الثقوب السوداء بصورة مؤكدة رغم اعتقاد البعض أن ثمة إشارات توحي بوجودها، وهي تموجات في الزمكان تسمى موجات الجاذبية. صحيح أننا عاجزون عن الجزم بوجودها، لكننا متأكدون على الأقل من أن التفكير فيها دفع ستيفن هوكينغ لاكتشاف الإشعاع الذي تطلقه الثقوب السوداء، والمعروف باسم “إشعاع هوكينغ”، بجانب اكتشافه “مفارقة معلومات الثقب الأسود” (وهي مشكلة ما زالت قائمة في علم الكونيات، تقول إنه حينما تتبخر الثقوب السوداء فإنها ستفقد معلومات ما سقط إليها من أشياء).
بالطبع ستكون لحظات مثيرة وبليغة الأثر إذا أثبت العلماء أن الثقوب السوداء البدائية تشكلت بالفعل في بدايات الكون، وازداد بالفعل الاهتمام بهذه الفكرة في السنوات الأخيرة. إننا نعلم أن أي ثقب أسود يزن أقل من تريليون كيلوغرام -أي تقريبا كتلة جبل- ويبلغ حجمه حجم البروتون، من المفترض أن يكون تبخر بالفعل وصولا إلى زمننا الحالي بسبب إشعاع هوكينغ، بينما سيتمكَّن أي ثقب أسود أكبر من ذلك من النجاة واستئناف مسيره إلى يومنا هذا. ومع ذلك، ما زال هناك احتمال أكثر استثارة للانتباه، فمنذ نحو 10 سنوات، شاركني آلان كولي من جامعة دالهاوسي في هاليفاكس بكندا اهتمامي بما إذا كنا نعيش في كون دوري، يتقلب ما بين انكماش وتضخم.
بدأنا نفكِّر فيما إذا كانت الثقوب السوداء قد تشكَّلت في دورة كونية سابقة، وأدركنا أن ثمة احتمالين لذلك. يشير الاحتمال الأول إلى أنها تشكَّلت نتيجة الكثافة العالية للكون السابق في اللحظات الأخيرة من انهياره، فيما يُعرف بمرحلة “الانسحاق العظيم”، التي تشبه تماما المرحلة التي كان فيها الكون شديد الكثافة بعد الانفجار العظيم، لكن الفرق هنا أنها تحدث في الوقت الذي يكون فيه الكون على شفير الهاوية، بينما تحدث مرحلة الانفجار العظيم في الوقت الذي يمر فيه كوننا بمخاض عسير وينبثق إلى الوجود. لذا إن كان من الممكن أن تتشكل الثقوب السوداء وقت الانفجار العظيم، فقد تتشكل أيضا في مرحلة “الانسحاق الشديد” للكون.
في هذه الحالة، سيكون لدى الثقوب السوداء حدٌّ أدنى من الكتلة تحدده كثافة الكون عند الارتداد، وإذا كانت هذه الكثافة منخفضة بما يكفي، فقد تصل الثقوب السوداء إلى حجم كبير كفاية لتفسير المادة المظلمة، أو تلك الأشياء الغامضة التي تمنع المجرات من التفكك والتطاير بعيدا، أو ربما تساعد في التعرف على أصل الثقوب السوداء فائقة الكتلة. للتعمق أكثر في هذا الموضوع، تعاون كلٌّ من جيروم كوينتين وروبرت براندنبرغر من جامعة مكغيل في مونتريال بكندا لحساب التقلبات الكمومية والحرارية لكون مُنهار، واكتشف العالمان أن الثقوب السوداء يمكن أن تتشكَّل بالفعل لكن في حالة واحدة فقط وهي أن تكون “المادة” هي المهيمنة على الكون وليس “الإشعاع”.
أما الاحتمال الثاني فيشير إلى أن الثقوب السوداء تشكَّلت في مرحلة مُبكرة من عمر الكون السابق، تماما مثل الثقوب السوداء التي تشكَّلت من انهيار النجوم أو النوى المجرية في كوننا (وهي منطقة متكدسة في مركز المجرات شديدة اللمعان).
في كلتا الحالتين، طرأ على ذهننا السؤال التالي: وهو ما إذا كانت الثقوب السوداء الموجودة قبل الانفجار العظيم ستنجو من الارتداد وتعبر إلى كوننا الحالي. استنتجنا أن ذلك يعتمد على المساحة التي تشغلها الثقوب السوداء في الكون عند الارتداد، ويمكن للمرء أن يتوقع نجاة الثقوب السوداء واستئناف مسيرها لتصل إلى كوننا الحالي إذا كان حجمها وقت الارتداد أكبر من حجمها المعتاد، لأن في هذه الحالة لن تمر بمرحلة ضغط واندماج معا. وقد خلصنا في النهاية إلى أن هذا السيناريو من المفترض أن يكون ممكنا في كثير من الحالات.
في عام 2015، تعاونتُ مع زميلي تيموثي كليفتون من جامعة كوين ماري بلندن، وآلان كولي من جامعة دالهاوسي بكندا، في محاولة منا للتطرق لهذا السؤال بأسلوب دقيق وصارم من الناحية الرياضية. استنبطنا بعض الحلول الدقيقة لمعادلات أينشتاين للنسبية العامة لنتمكَّن من وصف مجموعة منتظمة من الثقوب السوداء الموجودة في كون يمر بمرحلة ارتداد، وخلصت نتائجنا إلى أن هناك بالفعل احتمالات لتنجو فيها الثقوب السوداء المختلفة من هذه الدورات اللامتناهية من الدمار والتجديد، وهي ما يسميه علماء الكونيات “الارتداد الكوني”.
في وقت لاحق، تحرينا أيضا بعض النتائج الكونية لهذا الاقتراح بدعوى أن الثقوب السوداء قبل الانفجار العظيم يمكن أن تفسر المادة المظلمة، وتوفر اللبنات الأولى لتشكيل المجرات، وربما تكون أيضا العامل الرئيسي في نشأة الارتداد نفسه. ربما ما لا نفطن إليه هو أن الثقوب السوداء البدائية التي وُلِدت قبل مرحلة التضخم الكوني تظهر في السيناريو المعتاد للانفجار العظيم ضعيفة وهشة للغاية، لذا يُفترض عادة أن أيًّا من الثقوب السوداء الموجودة في وقتنا الحالي تشكَّلت بعد مرحلة التضخم، على عكس بعض نماذج الارتداد التي لا يوجد بها مرحلة تضخم.
أفسحت هذه الأفكار الطريق لأبحاث جديدة تناولها باحثون آخرون فيما بعد بمزيد من الإسهاب. في عام 2018، قرر كلٌّ من كارلو روفيلي من جامعة إيكس مرسيليا في فرنسا، وعالمة الفيزياء النظرية فرانشيسكا فيدوتو من جامعة ويسترن في أونتاريو بكندا، دراسة إمكانية أن تكون المادة المظلمة مكونة من بقايا ثقوب سوداء كانت موجودة قبل الانفجار العظيم، وجادلوا بأن جزءا صغيرا فقط من حجم الكون سيكون خارج هذه الثقوب السوداء وقت الارتداد، رغم أن الراصدين لهذه المناطق سيشاهدون كونا متجانسا في أوقات لاحقة. أما الاحتمال الأشد غرابة هو أن الارتداد يضغط على الكون بشدة لدرجة أن جميع الثقوب السوداء تندمج معا. حتى الثقوب السوداء العملاقة التي نعرف أنها موجودة اليوم يمكن أن تؤدي إلى الوضع ذاته إذا انهار الكون الخاص بنا على نفسه في نهاية المطاف.
ستلعب هذه الاندماجات التدريجية دورا في ولادة ثقوب سوداء أكبر مع تسلسل للكتلة المتزايدة إلى أن يتحول الكون كله في النهاية إلى ثقب أسود واحد. لا أحد يعلم ما الذي قد يحدث في هذه الحالة، لكن بحسب دراسة جديدة قام بها عالما الكونيات دانييلا بيريز وجوستافو روميرو من المعهد الأرجنتيني لعلم الفلك الراديوي، وفريق بقيادة عالمة الفيزياء النظرية ماكسينس كورمان من معهد بيريميتر بكندا، اتفقت المجموعتان -رغم اختلاف تفاصيل حساباتهم- بعد دراسة سلوك ثقب أسود واحد أثناء الارتداد على أن الثقب الأسود يمكنه النجاة من هذه الدورات اللامتناهية من الدمار أثناء الارتداد، وأن حجمه قد يتقلص لبعض الوقت. على الجانب الآخر، قد يحفزنا هذا الانكماش على التفكر أيضا في احتمالية ألا تندمج هذه الثقوب السوداء تماما في النهاية إلى ثقب أسود واحد.
صحيح أن جميع هذه المجهودات رائعة ولا يمكن اعتبار أنها قد تُفضي إلى خواء، لكن أليس من الطبيعي أن نتساءل عن الدليل؟ لحُسن الحظ ظهرت دراسة حديثة قادها “يي فو كاي” من جامعة العلوم والتكنولوجيا في الصين، والمهتم بفكرة أن الثقوب السوداء البدائية ربما هي المسؤولة عن ولادة الثقوب السوداء العملاقة الرابضة في مراكز المجرات الحالية، لتُقدِّم لنا بعض الأمل في أننا قد نتمكَّن يوما من التعرف على الثقوب السوداء قبل الانفجار العظيم، ما يعني أننا سنتمكَّن من تمييزها عن الثقوب السوداء الأخرى التي تشكَّلت في كوننا.
تتراوح كتلة هذه الثقوب السوداء الضخمة من مليون إلى 10 مليارات ضِعْف كتلة شمسنا. ومن خلال عمليات رصدنا للكون البعيد، أدركنا أن هذه الثقوب الموغلة في الضخامة كانت موجودة بالفعل في وقت مبكر جدا من عمر الكون بحيث لا يمكن أن تشكِّلها العمليات الفيزيائية الفلكية المعتادة. وبالتالي لا يزال الأمر مبهما وعصيا على إدراكنا، إذ كيف يمكنها أن تنمو بهذا الحجم وبهذه السرعة الفائقة في تلك الفترة القصيرة؟ وللوصول إلى إجابة عن هذا التساؤل، ثمة احتمال وإن لم يكن ضمن وجهات النظر السائدة، وهو أن الثقوب السوداء الضخمة تمخضت في الأصل عن الثقوب السوداء البدائية.
على المنوال ذاته، تُحيلنا هذه الاحتمالية إلى السؤال الأهم: هل ثمة سبيل لمعرفة ما إذا كانت هذه الثقوب السوداء البدائية قد أتت من انفجار عظيم أم من ارتداد كوني كبير؟ لهذا قرر كاي وزملاؤه نمذجة تقلبات الكثافة في كلٍّ من سيناريو التضخم والارتداد للمقارنة بين النموذجين، وتنبأ الفريق بأن عدد الثقوب السوداء الهائلة سيتناقص بشدة كلما ازدادت الكتلة في مرحلة الارتداد. غير أننا في الوقت الحالي لا نملك بيانات كافية للتمييز بين السيناريوهين، لكن الملاحظات المستقبلية التي سيُفضي إلينا بها تلسكوب جيمس ويب قد توفر لنا ذلك.
إن وجود الثقوب السوداء البدائية التي تشكَّلت في هذا الكون مجرد افتراض، معنى ذلك أن فكرة وجود ثقوب سوداء من كون سابق ما زالت فكرة أكثر تكهُّنا وتخمينا. ومع ذلك، يظل من المهم استكشاف هذا الاحتمال، ناهيك بشعور البهجة والإثارة الذي سيخامرنا بمجرد التأكد من هذه الفكرة. ومثلما أدى التفكير في الثقوب السوداء البدائية إلى رؤى مهمة حول الجاذبية الكمية، فإن التفكير في وجود الثقوب السوداء قبل الانفجار العظيم قد يؤدي إلى مزيد من الرؤى المادية الملموسة، حتى لو اتضح أن الكون ليس دوريا (أو مستمرا في سلسلة من التوسعات والتقلصات اللامتناهية).
لقد تقاعدت مؤخرا، وأرى أن من المناسب على نحو غريب أن تنتهي مسيرتي المهنية التي بدأت بدراسة تكوين الثقوب السوداء في بداية هذا الكون مع شكلها النهائي في نهاية الكون. خلصت مقالتي قبل 50 عاما إلى أن “الثقوب السوداء منتشرة من الناحية النظرية رغم أنها مراوغة أثناء عمليات رصدها”، لكنني الآن أكثر تفاؤلا إزاء العثور على ثقوب سوداء بدائية سواء تشكلَّت في كون سابق أم لا.
ربما كانت النقطة الأهم في فكرة الثقوب السوداء البدائية هي أنها دفعت ستيفن هوكينغ للتفكير في التأثيرات الكمومية للثقوب السوداء، وبالأخص عندما اكتشف أن الثقوب السوداء ينبعث منها إشعاع هوكينغ. من المهم أن ندرك جيدا أنه لا يمكن إلا للثقوب السوداء البدائية أن تكون بهذا الحجم الصغير للغاية بحيث يكفي أن يتسبب هذا الإشعاع في اختفائها، كما أن التفكير في هذه النقطة أيضا دفع هوكينغ إلى استنتاج ظاهرة “مفارقة معلومات الثقب الأسود” (فوفقا لقوانين ميكانيكا الكم، يمكننا الاستدلال على حالة أي نظام في أي لحظة عن طريق الدالة الموجية، ولكن يرى هوكينغ أن بعد تلاشي الثقب الأسود لن يكون لدينا دالة موجية واضحة للاستدلال على المعلومات المرتبطة بالجسيمات التي كانت داخل الثقب الأسود).
هذا يعني أن دراسة هوكينغ شكَّلت ادعاءً يناقض قوانين ميكانيكا الكم التي تؤكد استحالة ضياع المعلومات أو تدميرها في الثقب الأسود، بينما جادل هوكينغ بأن الفناء سيترصدها بمجرد أن يتبخر الثقب الأسود. لكنه غيّر رأيه في وقت لاحق، وما زلنا نفكر في حل لهذه المفارقة حتى يومنا هذا. يُعَدُّ إشعاع هوكينغ أحد أهم الاكتشافات في فيزياء القرن العشرين، لقدرته على توحيد ثلاثة مجالات فيزيائية مختلفة معا: نظرية الكم، والنسبية العامة، والديناميكا الحرارية. لذا لا يمكن إنكار أن ما توصل إليه هوكينغ هو نتيجة رائعة في النهاية، لدرجة أن الفيزيائي جون ويلر -الذي صاغ مصطلح الثقب الأسود- أخبرني ذات مرة أن الحديث عن إشعاع هوكينغ والثقوب السوداء أشبه بالشعور اللطيف الذي يتدفق إلى نفوسنا عند “دحرجة الحلوى على اللسان”.
بصفتي شخصا تعاون سابقا مع ستيفن هوكينغ، أرى نفسي محظوظا كفاية لوجودي بهذا القرب من هوكينغ ومتابعة هذه التطورات التي كان يعمل عليها. لذا حتى وإن لم تتشكَّل الثقوب السوداء البدائية أبدا، فإن اكتشاف إشعاع هوكينغ أثناء عمليات البحث هذه يوضح إلى أي مدى كان من المهم التفكير فيها.