عاجل

د. يوسف العجلوني يكتب.. هل الدنيا تغيرت ؟ .. لا ، الناس هم من تغيروا

 في كل أمر وعمل نقوم به في حياتنا ، هناك منطق وأصول وقواعد أخلاقية تحكمها العادات والتقاليد والدين والظوابط الإجتماعية والإنسانية ، الإنسان المعتدل المنطقي العقلاني فقط يحسن الحديث والتصرف في مختلف المواقع بما يليق ويتماشى مع الحدث والمكان والزمان والأشخاص.

تختلف طباع البشر وتتغير تبعاً لعوامل عدة ، منها الجيني ومنها المكتسب ، وحسب الثقافة والمكان والمجتمع ، فهنالك نفوس تزداد تواضعاً كلما ارتفعت ، وهي النفوس الكريمة التي تربت على العز والأصول والقناعة والثقة بالنفس ، وهذه النفوس تعلم أن الدنيا دوارة ، وأنه مهما حصل عليه الإنسان من نعم قد يزول سريعاً ، فالصحة والغنى والمناصب قد تزول بحادث أسرع من لمح البصر ، لذلك لا يغترون بالدنيا ، هم يصنعون أنفسهم بأنفسهم ، يتمسكون بالأخلاق ، ولا يكترثون للمكاسب المؤقتة الزائلة.
.
المجتمع مكون من عدة طبقات فكرية ومادية ، فالكثير من الناس يلومون الدنيا ويعزون إليها كل ما لا يعجبهم من أخطاء وكبوات ، ويزعمون أنها السبب في تغيير أحوالهم وأخلاقهم وسلوكياتهم ، ومع أي موقف سيئ يحدث أو يتعرضون له ، يلومون الدنيا والزمن والأيام، ويترحمون على ما فات حيث أنهم كانوا بدون أخطاء ولا زلات ، وكل شيءٍ كان حولهم مثالياً، ولم يكن ينقصهم شيء.

ليس الصحيح إلقاء اللوم على الدنيا ، فالحق الكامل هو على أولئك المقصرين في حق أنفسهم ومجتمعهم ، ويتغيرون كما هي مصالحهم وأعمالهم ، ويقولون الدنيا تغيرت ، البشر هم أنفسهم من يتغيرون ويتلونون ، والأيام والدنيا هي من يكشف عن وجوههم النقاب ويظهر حقيقتهم ، فهم من تلونوا بألوان تتناسب مع رغباتهم ومآربهم ، هم من قست قلوبهم وافتقدوا للرحمة . لم تكن الدنيا السبب في نشوب الصراعات والنزاعات والحروب بين الناس ، الدنيا لم تكن السبب في الطمع والجشع ، ولم تكن السبب في انتشار الجوع والفقر بين بعض طبقات المجتمع ، ولم تكن السبب في انتشار الجرائم والقتل ، والسرقة، والنصب والاحتيال والخيانة ، ولم تكن السبب في إقدام البعض على الانتحار للتخلص من حياته.. ولم تكن السبب في عقوق الأبناء للوالدين ، الدنيا لم تكن السبب في تغيير طبيعة العلاقات الإنسانية بين البشر ؛ فلم تكن هي السبب في تغيير سلوكيات الجار بجاره ، ولا بعلاقة الأبناء بالوالدين، ولا بعلاقة الأخوة والأخوات بعضهم ببعض ، ولا هي التى محت من معاملاتنا مع الآخرين سلوكيات حميدة ، ولا هي التى زرعت في الأطفال منذ نعومة أظفارهم، العنصرية، والحقد، والغيرة، والكراهية، والحسد.

الدنيا بريئة من تغير أنفسنا ، فقد أصبح هناك مجالًا كبيرًا للجفاء والبعد والقسوة ، أصبحت العواطف الجميلة قليلة التركيز ، والأمزجة عسيرة ومتقلبة ، والعلاقات فاترة ومادية ، والتعاملات غير صادقة ، والآراء إن اختلفت أفسدت للود قضايا ، والأمراض النفسية الجديدة التي انتشرت في المجتمع ، والقطيعة والحقد والأنانية ، وانعدام الثقة بين الناس ، وانتشار الاهتمام بالمنفعة الشخصية دون النظر إلى المصلحة العامة.

أصبح الناس حسّاسين؛ يُفسّر الكلام على هواهم ، حيث لم تعد العلاقات كالسابق ، والأهل والأقارب لم يعودوا كالماضي ، نادراً ما ترى علاقة تدوم ، ولا صحبة تسير طويلاً ، حتى عند اللقاءات نجد أن كل شخص متحفظ على كلامه ، أو مشغول بجهازه الخلوي ، مبرراً ذلك خوفاً من حدوث مشكلة نتيجة لكلمة قد تُفسّر بشكل خاطئ ، والبعض أصبح يبحث عن نقاط الضعف والخلاف ، ولا يهمه سوى ماذا قال فلان أو علاّن؟.

الدنيا لم تتغير ، ولكن الإنسان من تغير ؛ النذالة زادت وتفشت ، والجبن صار حرصاً وحماية للنفس ، وأصبح الظلم نصراً، والكيد ذكاءً ، والمكر إدامة للعمل والمصالح ، والتدليس استمرارية وتقدم في المهنة ، والسرقة شطارة وكسب سريع ، والاستقواء على الناس إدارة، والوقاحة حرية ، واستخدام السلطة بالباطل تعبئة للمكان ، والصوت العالي والغضب قوة ، والخنوع سياسة ، وقلة عمل الخير غنيمة ، وصار السكوت عن قول الحق راحة بال ، وأصبح الجهد الصادق والتطوير عرقلة للعمل ، والموظف الجيد هو الذي لا يملك رأياً ولا عزة ، والمنتمي هو الذي يحقق مصلحة المسؤول ، والوطني هو الذي لا يخرج عن سرب الخوف والخضوع والخراب ، ومن يقود السرب يفتقد للرجولة والإباء.

لا يمكننا أن نعيب الزمن قبل أن نفكر بالأسباب ، ممكن ان تكون اسباب بخاطرنا ووافقنا عليها ، وممكن ان تكون اسباب نحن اجبرنا عليها من تغير ظروفنا والظروف التي حولنا ، وفي كل مرة يجب نحاسب أنفسنـا اذا كان الخلل منا ، ونلتزم بالمبادئ والأخلاق وما في نفوسنا وقلوبنا من صدق واصول مهما كانت الظروف الأخرى ، وحتى لو مسنا بعض الظلم ، وقدر المستطاع ، وكل ما نحتاج إليه الآن هو التوقف للحظة والتفكير العميق بما نحن فيه وما هي الحلول الصحيحة ، مؤمنين بقدراتنا الذاتية ، ومصرين على تكيفنا مع معطيات العصر وما تفرضه من ظروف ، ويكون هنالك ضوابط ، وان لا نتنازل عن الصمود والدفاع ومنع كل ما يسيئ لمجتمعنا ويزعزع أركانه.
ومن هنا نستطيع ان نميز بين القوي الملتزم بالمبادئ والأخلاق وبين الضعيف المستسلم المتنازل ، وهنا تظهر قوة القلب والنفس ، وهي قوى خارقة ، وهنا يكون الإثبات على أن الدنيا لم تتغير.
القدرة على التحدي والمواجهة هي النقطة الفاصلة امام المؤثرات ومواجه التحديات ورفض الاستسلام والتغير السلبي ، وذلك ضمن القوة الكامنة التي اودعها الله في الانسان ، فإن استخدمها ، يستطيع ان يصنع المعجزات ، والتاريخ البشري خير دليل على ذلك في قدرة الإنسان على مواجهة جميع المؤثرات والتغيرات البيئية والاجتماعية والنفسية والمالية.

هل الدنيا تغيرت عندما نرى بعض المواقف التي هي جريمة في حق مجتمعنا ، كونها تهدم أخلاقياته وتسيء لهويته ؟ ، هل الدنيا تغيرت عندما يخطئ شخص في حق غيره ولا يكترث لفعلته ؟ ، إن غياب الأخلاق عن المجتمع يؤدي لتفشي الإحباط والقلق، ويشجع على عدم الالتزام بالقوانين والحدود، هل الدنيا تغيرت عندما يؤذي الجار جاره ؟ ، وهل الدنيا تغيرت عندما تغيرت النفوس بسبب الأموال والجاه والنفوذ ؟ وبتنا نراقب بعضنا البعض ، وهل تغيرت الدنيا عندما يقسو الابن على والديه ، ويذهب بهم إلى بيوت العجزة والمسنين ؟ ، وهل تغيرت عندما ندعي العلم والأخلاق والثقافة والدين للحصول على منصب ؟ ، وهل تغيرت الدنيا ولم يعد لكبار السن وقار بيننا ، ولا كلمة علينا ؟ ، وهل الدنيا تغيرت عندما لا يحترم الطالب أستاذه ؟ ، وهل الدنيا تغيرت عندما يستغل المدير من يشتغلون معه ؟ ، ويستغل أستاذ الجامعة طلابه ؟ ، ويستغل الطبيب مرضاه ؟ ، وهل تغيرت عندما نتبع غير مبادئنا لمجرد مصلحة شخصية ؟.

الدنيا ممكن أن تتطور وتتغير فيها بعض الأمور بسبب التكنولوجيا ، ولكن هي ثابتة ولا تتغير ، والذي يتغير هي النفوس والأخلاق والقيم؛ فالمراجعة في مواقفنا ضرورية ، ونحن على ثقة بقدراتنا على التكيف ، وكل ما نحتاج إليه هو التفكير العميق وإعمال الفكر مع العمل والإيمان بقدراتنا الذاتية الخارقة، فشعب صاحب حضارة حري به أن يتجاوز السلبيات ويبنى على الإيجابيات ويأخذ من الحياة ما يناسبه ويتوافق مع تطلعاته وآماله وأهدافه وأحلامه.

كانت حياة الناس من قبل بسيطة وبدون تعقيدات وعلى الطبيعة التي جبلهم الله عليها ، يمشون على أقدامهم ويتنقلون على الدواب… إلخ. ولكن مع اختراع الماكينة والسيارة والطيارة والحاسوب وما تبعه من تكنولوجيا حديثة أخذت حياة الناس تتعقد شيئاً فشيئاً بناءً على تعقيدات ما وصل إلى أيديهم من تكنولوجيا وأجهزة حديثة ووسائل إتصال وتواصل اجتماعية تكنولوجية متقدمة جداً للغاية.

نتذكر ان الدنيا تغيرت، الزمن تغير ، كلما شاهدنا أمراً مختلفاً وأحداثاً غير متوقعة، وتغيرات لا يرضى القلب والعقل بوجودها ، فتخرج تنهيدة من أعماق القلب بها حسرة بجملة الدنيا تغيرت!!.

القناعة والرضا كانت موجودة والمرء منا أقل انشغالاً بما نحن اليوم عليه ، فلا تخزين لمواد الغذاء، ولا ثلاجات تضيق بما فيها ، والخبز يؤكل طازجًا من الخباز ، كان التكافل موجوداً ، وكانت مواد الغذاء تؤخذ بالسلف من الباعة الذين ترسخت الثقة بينهم وبين المشترين.

إننا لا نستطيع أن نعيد عقارب الزمن إلى الوراء ، زمن وانقضى بما فيه من فضائل ومحاسن وقيم أصيلة.
علينا أن نؤمن بأن الدنيا تطورت بسرعة ، وليس سهلاً أن نتغير نحن بنفس السرعة والمقدار ، ونحن على ثقة بقدراتنا على التكيف مع العمل والإيمان بقدراتنا الذاتية وتكيفنا مع معطيات العصر.
يجب أن نتجاوز السلبيات ونبني على الإيجابيات ونأخذ من الحياة ما يناسبنا ويتوافق مع تطلعاتنا وآمالنا وأهدافنا.

د. يوسف العجلوني