ترسيم السياسات الأكاديمية
عند إحصاء ما لدينا من جامعات ومعاهد في وطننا العربي ، ومدى سعة وانتشار هذه المؤسسات التعليمية والقروح المعرفية جغرافيا وديموغرافيا ، نجد أن الفرق شاسع ما بين حجم الحضور الفعلي لهذه الجامعات والمعاهد وما بين الأثر الفعلي المترتب على حضورها في بيئة الحياة العامة ، وصلاتها ببناء الإنسان وزراعة الوعي في نفسه .
التحدي الأبرز لا يكمن في زيادة عدد الجامعات ومسمياتها وفروعها التخصصية، أو حتى توسعة المساقات الأكاديمية المطروحة فيها ، بل تعتمد هذه الفعالية على شكل وهوية البناء الذاتي داخل هيكلية المنشأة التعليمية ، وملاءمتها لظروف الجودة والمنتج الإيجابي الذي يستفيد منه العاملون في الجامعات ، وقطاع المجتمع المدني ، والقطاع الخاص ، ومؤسسات الدولة في الآن ذاته .
هذه العملية الشمولية والتكاملية تعني وضع مخططات عليا لتوجهات كل صرح علمي ، وترسيم مخططات فرعية تخصصية لكل مجال فيه ، بدءا بالبيئة الأكاديمية ، مرورا بظروف البلاد السياسية والإقتصادية، وانتهاء بتطلعات طلبة الجامعات والمعاهد وذويهم ، وهذه العملية هي التي يطلق عليها في علم الإدارة العصري اسم ترسيم السياسات العامة ، والتي تشمل بناء الرؤية والرسالة والأهداف العامة والخاصة وجداول العمل الزمني والكوادر المطلوبة لنجاح المشروع المراد .
من خلال الدراسات الإحصائية التي تمت في كثير من بلاد العالم العربي ، والمقايسات التي تمت بين الواقع الأكاديمي العربي والغربي ، يتضح جليا أن الفجوة بين الواقعين كبيرة جدا ، بنظرة واحدة على أفضل الجامعات العالمية ، سنجد ما ذكر من جامعاتنا العربية في قائمة أفضل خمسمائة جامعة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة .
السؤال هنا ، هل للقدرات المادية دور في هذه التصنيفات ? هل للعقول الأكاديمية دور فيها ? أيهما أغنى مثلا : الإمارات العربية أن فنلندا ? ولماذا تدخل دول العالم في مجال التنافسية وتبتعد عنها نحن برغم ما تملكه من عقول ومقدرات وموارد ?
والإجابة المنطقية على هذا التساؤل تكمن في معرفتنا لآليات صناعة القرار داخل منشآتنا الأكاديمية ، ومدى استقلالية القرار الإداري فيها ،. ومستويات الوعي والحرص والاخلاصرفي تطويرها لترضى لمصاف الجامعات العالمية المتقدمة ، ليس شكلا فحسب ، بل شكلا وجوهرا ، بما يحقق إنتاج عقول طلابية واعية وواعدة ، وجامعات تخصصية رائدة ، وتواصلية تفاعلية مع الدولة والمجتمع تصل لمرحلة التكامل والتفاعل المشترك وليس التنسيق عبر الشعارات والتصريحات .
إننا مطالبون اليوم بعزيز واقعنا الأكاديمي ، وإعادة هندسة السياسات التعليمية والتربوية لدينا لمعرفة التقاطعات الإيجابية والسلبية فيها ، وتعزيز نقاط القوة وتجفيف منابع الضعف ، لننهض بواقع جامعاتنا ، ونقدم للأجيال خدمة أكاديمية تصقل شخصية الشباب وتمنحه الفرصة للإبداع التخصصي في رحاب الجامعة وفعالياتها ومختبراتها وساحاتها التفاعلية وبرامجها التنموية المنهجية وغير المنهجية .
ومن باب المسؤولية ، فإن واجبنا اليوم في دراسة جدوى وزارات التعليم العالي في عالمنا العربي ، وقدراتها ومسؤولياتها وتوجهاتها، وهو ما يدفعنا للسؤال أيضا عن طبيعة علاقتها بإدارات الجامعات، وموازنات تطوير التعليم والبحث العلمي ، وتوجهاتها نحو اتمتة التعليم وتطوير وسائل البحث والتدريب والتأهيل للكادر الوظيفي ليكون قادرا على الإسهام في خوض التحدي والتعامل مع متطلبات هندسة التغيير المنشودة.