"أيمتا بدكو تيجو عنا؟"
في بلادنا كان تقديم الطعام للضيوف والزوار وخدمتهم عادة عربية يمتثل الجميع لطقوسها وقواعدها ويعون تفصيلاتها ويتبارون في اداء مستلزماتها حتى أن البعض برع فيها فحظي باحترام العرب وتقديرهم وخلد ذكره على جدار الزمن.
الكرم العربي بصورته التي عرفها شيوخ القبائل وسادتها كان مدفوعا بحاجة المسافر والزائر للطعام في الزمن السابق على ظهور المراكز الحضرية وما فيها من المطاعم والمتاجر والمؤسسات التي تعنى بتوفير السلع الغذائية وتقديم خدمات تحضيره وإعداده وتقديمه.
رواسب عادات تقديم الطعام للزوار والضيوف بقيت في البوادي والارياف وتطورت لتصبح ممارسة ذات دلالات سياسية واجتماعية جديدة بحيث يقوم البعض ومن وقت لآخر بتنظيم دعوات بمناسبات او بلا مناسبات يجري من خلالها توجيه دعوات لأعداد من أعضاء المجتمع المحلي واحيانا من خارجه لتناول الطعام في بيت او مضارب صاحب الدعوة.
لمثل هذه الدعوات العديد من الغايات والمغازي والوظائف؛ ففي كل دعوة رسائل يوحهها الداعي ويفهمها المعنيون، ويمكن قراءة الكثير من الدلالات في النشاط الولائمي للمجتمعات المحلية وغير المحلية ففيها تعبير عن الاحلاف والائتلافات وتثبيت لها او اعادة رسمها وهيكلتها وفيها رسائل حب وغضب وعتب من خلال قوائم المدعوين والمستثنين من الدعوات والضيوف الجدد واعداد الحضور والمتغيبين.
في الزمن الذي لا يستطيع الناس فيه التعبير عن أفكارهم ورؤاهم السياسية وتوجهاتهم تجري الاستعانة بالولائم كلغة يجري من خلالها التعبير والتواصل. البعض يرغب في أن يتقرب من الناس أكثر وآخرون يودون استعراض ثرواتهم وقدرتهم على جمع الناس فيبالغون في تنظيم دعوات تخرج عن السيطرة.
عدوى الدعوات الاستعراضية والكرم المصلحي انتقلت الى الجميع، بما في ذلك الاشخاص الذين لم يسبق لهم ممارسة هذه العادة خارج اطار النوايا وعلى هيئة “وين يا زلمة….والله جاي على بالي ادعيكو…..ومن فترة كان عندي جماعة وكنت حاب تكونوا معانا…..واخيرا…ايمتا بدكو تجو عنا”.
قبل أيام صادفني أحد معارفنا الوصوليين بابتسامة مفتعلة ودفء مصطنع واحتجز يدي بعد مصافحته وهو يردد “ايمتا بدكو تجو عنا؟”. كنت أطالع تقاسيم وجهه وهو يردد جملته هذه التي سمعته يرددها عشرات المرات وكلما قابل أحدا يرغب في التودد له.
دون ان ينتظر إجابة مني استطرد في الحديث بقضايا غير متصلة وبأسلوب لا يمكن أن تصفه بالمحادثة فقد قال كل الاشياء التي ادخرها لإشغال الدقائق التي يمكن ان يقضيها مع المعارف والاصدقاء عند مصادفتهم.
الطريقة التي يتحدث فيها صاحبنا وصيغة الدعوة التي يوجهها اصبحت شائعة يستخدمها العديد من الأشخاص الذين تعج بهم الأماكن العامة ولا تعرف لهم مهنة محددة او اهتماما محددا فهم في كل مكان يعرفون الجميع ويشعرونك بانهم مطلعون على أدق التفاصيل.
لا شيء في الدعوة وصيغتها يوحي بأنها صادقة أو مقصودة، ولا يوجد مبرر لمثل هذه الدعوات أصلا. الكثير من الأشخاص استدخلوا الجملة بصيغتها الكاملة لتضفي على لقائهم بالآخرين نوعا من الدفء والحميمية المصطنعة مدركين ان الجملة تقع في منزلة بين الدعوة الفاترة وكسر الجمود، فلا يتوقع الداعي أن المدعو سيضرب موعدا للزيارة غدا أو بعد غد.
قبل أشهر دعانا أحد المعارف لقضاء يوم في مكان قال إنه جميل وأسهب في وصفه وتفاصيل البرنامج الذي أعده للقاء والأصدقاء الذين سنكون بصحبتهم، واخبرنا أنه سيرتب الموعد مع الأصدقاء وقد صادف أن التقينا عدة مرات بعد الدعوة الأولى وشعرت في كل مرة وكأنني أستمع إلى شريط مسجل فيه نفس الكلمات ونفس الحماس.
المقلق أن هؤلاء يتكاثرون بسرعة مذهلة وتجدهم في كل مكان. فلا يتغيبون عن أي احتفال رسمي ولا دعوة لإفطار رمضاني أو عيد وطني لسفارة، يتعقبون الورش والمؤتمرات التي لا تعنيهم موضوعاتها ولا مجالاتها.
الكثير ممن احترفوا توجيه الدعوات الحيادية لمن يصادفونهم في الأماكن العامة أشخاص أدركوا قدرة هذا الأسلوب على جلب اهتمام من يوجهون له الدعوة ووضعهم في موقف دفاعي همهم التملص من الموقف المحرج الذي وضعوا فيه بحكم رغبة الداعي في الاستحواذ على اللقاء العابر مستخدمين أدبيات الضيافة العربية ومظهرين دفئا وحبا واحتراما يمكنهم من الهيمنة على الموقف التفاعلي العابر ويشعرهم بنشوة التفوق من خلال الدعوة الوهمية غير المبررة.