طارق عزيز إلى الحرية
وأخيراً حطّم طارق عزيز قضبان الزنازين بيديه الكليلتين، وخرج الى الحرية.. بالموت. فلي مع هذا الرجل العظيم صداقة كنت اجتر تفاصيلها في كل خبر اسمعه: فقد قضى ابو زياد آخر سنواته شبه اعمى. وسقطت اسنانه ومنع عنه زبانية الحقد كل دواء.. وكل صوت من أصوات رفيقته وابنائه.. ولعل خوفهم من الاميركان هو الذي ابقاه حيّاً حتى الآن.
بقي من الذاكرة وقفته في جنيف الى جانب وزير الخارجية الأميركي في المؤتمر الصحفي الأخير: وكان كلام عزيز أقوى وأكثر تأثيراً من تهديد الوزير الأميركي جيمس بيكر. وقتها كان طارق.. العراق كان في حجم بلد الرشيد، وفي عظمة فيلق من فيالق القادسية.
-هل ستضربون إسرائيل بصواريخكم إذا بدأ هجوم التحالف؟.
ولم يزد طارق على كلمة:..طبعاً.
في أول زيارة لبغداد، وشوّشني شاهر الطالب: سنذهب إلى الخارجية لزيارة طارق عزيز، وزرنا البناء الأبيض المحاط بحرس مدجج باللباس المدني: تفضل أستاذ. وبقيت اسمع هذا الأستاذ في كل مناسبة. لا سيّد ولا رفيق ولا.. يا باشا، ولا آغاتي التقليدية فالحزب أرسى تقاليد التواضع.
سألني وقتها طارق قبل أن نصل إلى المطعم الفاره: شو الأخبار؟ هل قرأت الصحف اليوم؟! ضحكت:.. لم أنل شرف العقوبة!. وضحك هو هذه المرّة. فالصحف العراقية كانت صورة الرئيس وافتتاحية طويلة. ولعل أحزابنا العربية العقائدية انتجت كالحزب الشيوعي السوفياتي أسوأ صحف. وحين اطلعت لأول مرة على البرافيرا هالني مشهد الصفحات التابلويد القليلة الهزيلة. أهذه صحيفة حزب كارل ماركس؟! أهذه صحيفة حزب لينين؟.
وبقيت كلما زرت بغداد التقي بأبي زياد في الندوات الحاشدة أو في المكتب الفاره. وكنت أجد دائماً في كل لقاء اضافة جديدة لهذه الشخصية العذبة في نظام متجهم. ولهذا الرجل الراسخ المتفائل في أكثر أيام الحرب قسوة.. الحرب مع إيران. وحين انتهت سعدت بدعوة سيدنا الحسين رحمه الله لمرافقته إلى بغداد للاحتفال بيوم النصر، مع عدد محدود من الزملاء ورئيس الوزراء مضر بدران وعدد من الوزراء. ونزل جلالته في احد القصور غير المكتملة، وذهبنا إلى فندق الرشيد على أن نكون بالمعيّة في سرادق مهيبة تتابع عرضاً عسكرياً لم نرَ مثله إلا في الساحة الحمراء في موسكو. وكان العرض مهيباً وباعثاً على التفاؤل ببلد حارب ثماني سنوات، وما يزال يملك جيشاً بمثل هذه الأسلحة.
كان سيدنا رحمه الله يحرص على ايجاد ولو وجبة افطار خفيفة للالتقاء مع رفاق السفر، وهكذا تجمّعنا لنلتقي بجلالته.. ونتناول وجبة الفطور ونذهب إلى المطار. وقبل أن نمدّ أيدينا قيل لنا: إن الرئيس يقف في المدخل. وطلب سيدنا أن نستقبله، ريثما يلبس ربطة عنقه وجاكيتته. وإذ بالرئيس يلبس لباس الصيد، وقبعة، وحذاء طويل الساق.
وسط الدهشة لأن هذا الصباح صباح اصطياد السمك من الترعة المحيطة بالقصر.. ويقترح طارق عزيز شيئاً آخر: فدولة الرئيس بدران زار العراق أكثر من مرّة لكنه لم يشاهد بغداد واقترح أن نقوم بجولة في المدينة التاريخية، وهذا ما حدث: سيدنا والرئيس صدام يصطادان السمك، ونحن نتجوّل بين متاحف بغداد.
صورة طارق عزيز لا تفارقني منذ مساء الجمعة: انتهت آلامه، وخرج من الزنازين.. إلى الحرية. ما أعظمك أيها الموت وما أعظم مدينة الفحيص التي ستضم جسدك الطاهر.