خطأ لؤي حسين وخطيئة النظام
سمعت بلؤي حسين وتيار بناء الدولة للمرة الأولى مع اندلاع الأزمة السورية في آذار/ مارس 2011، وتعرفت إليه شخصياً في مؤتمر نظمه مركز القدس للدراسات السياسية في البحر الميت في نيسان/ ابريل 2012، حين كان من بين ستين شخصية من مختلف المكونات الاجتماعية ومعظم ألوان الطيف السوري المعارض في الداخل والخارج يتداولون في سبل الخروج من الاستعصاء السوري… يومها قوبلت دعوتنا للؤي حسين باعتراضات شديدة من قبل مشاركين كثر في المؤتمر، على خلفية اتهامات للرجل بأنه يدور في فلك النظام، وأن معارضته له ليست سوى “ديكور” يُقصد به تجميل “الصورة القبيحة” للنظام. لم تتغير هذه الصورة كثيراً … في مؤتمر القاهرة الذي نظمه المركز ذاته لشباب المعارضات السورية المختلفة في نهاية العام التالي، تعامل ممثلو بعض المعارضات مع الشباب المحسوبين على معارضة الداخل، وتحديداً تيار بناء الدولة، بوصفهم “مندوبين عن النظام” قبل أن تبدأ “الصورة النمطية” عن هؤلاء بالتغير بعد أربعة أيام من التفاعل المباشر، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، من دون أن ننجح كلياً في تغيير الموقف أو تبديد الانطباع العام. صدر النظام ضاق بمعارضي الداخل، مع أنهم رفضوا العسكرة والتسلح والحسم والتدخل الأجنبي، ولم يعرف عنهم ارتباطاً أو حتى صلات طبيعية مع العواصم العربية والإقليمية التي تناصب النظام (قل الشعب السوري أيضاً) أشد العداء، ومن يضيق به صدر النظام، تضيق عليه الأرض بما رحبت، ولا يجد مكاناً له إلا في أقبية السجون والزنازين … حدث ذلك مع عبد العزيز الخيّر ورجاء الناصر، وتكرر مع لؤي حسين، من ضمن مئات وألوف النشطاء الذين ما زالوا يقبعون خلف القضبان، وفي ظروف أقل ما توصف به، بأنها لا إنسانية تماماً. إن كان لا بد من الإشارة بإصبع الاتهام (والمسؤولية) عن واقعة فرار لؤي حسين من سوريا إلى تركيا وصولاً لإسبانيا … إن كان هناك من يتعين إلقاء اللائمة عليه في انضمام حسين إلى الائتلاف والمعارضين من أصحاب “الرؤوس الحامية” والارتباطات المعروفة، فهو النظام في دمشق أولاً وأخيراً … فمن تضيق عليهم أرض سوريا بما رحبت، لا يتبقى لهم سوى البحث عن منافٍ ومهاجر، قريبة كانت أم بعيدة. لقد قلنا من قبل، ونقول اليوم (وغداً على ما يبدو)، أن أكبر عدوٍ للنظام هو النظام نفسه … وأكبر تهديد للنظام سيأتيه من داخله … لا أريد أن استحضر مسلسل “الموت في ظروف غامضة” الذي لاحق العديد من جنرالات الأجهزة الأمنية الكبار … ولكنني هنا أتحدث عن نجاح النظام الفائق، في “تطفيش” معظم المعارضين الوطنيين والسلميين، وإصراره برغم سنوات الخراب والدمار الأربع العجاف، على التصرف بذات العقلية الاقصائية المتغطرسة … ودفع المعتدلين من المعارضات، لانتهاج أكثر الطرق والوسائل تشدداً وتطرفاً. قلنا من قبل ونقول اليوم، إن أنظمة معتدلة تنتج بالضرورة معارضات معتدلة وسلمية، فيما الأنظمة الإقصائية والدموية لا تنتج من المعارضات إلا ما هو على صورتها وشاكلتها … لؤي حسين كان يمكن أن يظل في دمشق، وأن يكون صوتاً معارضاً سلمياً ومعتدلاً، لكن مطاردته بالأحكام القضائية الجائرة، وزجه في السجن لأشهر من دون مسوّغ، ومناخات التخويف والابتزاز التي يعيشها المعارضون، تجعل منهم مشاريع معارضين جائلين في العواصم والمنافي، يبحثون عمّن يمد لهم العون أو يوقعهم في شباك الأجندات الإقليمية المشبوهة، فيتحول من مشروع معارض وطني، إلى أداة في حرب التصفيات والتسويات التي تنخرط فيها عواصم ومراكز متناحرة. أخطأ لؤي حسين بترك البلاد من وجهة نظري، وإن كنت أخلاقياً ممن يرفضون تقديم النصائح والاقتراحات بقبول السجن والتحقيق والتعذيب … أخطأ بانضمامه إلى قوى طالما ناصبها “الخلاف” حتى لا نقول “العداء” وحمل على أجنداتها وارتباطاتها، وبالذات على تحالفها أو قل اعتماديتها على النصرة وجيش الإسلام وأحرار الشام ومن لفّ لفهم من فصائل إرهابية متطرفة…أخطأ لؤي حسين، إذ اختار إسطنبول كوجهة له، كنا نتمنى أن يظل في مدريد أو أن يذهب إلى القاهرة … أخطأ في توقيت اختياره كذلك، حيث تتكاثر مظاهر “التورط التركي” في الحرب على سوريا، وتتفجر الأحلام الإمبراطورية والتوسعية لأنقرة، ويعطي رئيس حكومتها لنفسه الحق في اختراق سيادة دولة جارة، بذريعة زيارة الضريح، أو “مسمار جحا” الجديد الذي قد يُتخذ كمبرر لإجازة الحرب التركية على سوريا كما كشفت عن ذلك التسريبات من مكتب احمد داود أوغلو … لكن أخطاء لؤي حسين، تظل على فداحتها، بالمفرق … أما خطأ (قل خطيئة) الذين دفعوه دفعاً للهرب والانشقاق والرحيل، فهي بالجملة.