في سبعينية اندحار الفاشية أو.. عندما انتصرت البشرية
العرض العسكري «التاريخي» الذي شهدته الساحة الحمراء في موسكو يوم أمس، لم يكن صدفة او مجرد استعراض.
تعراض روسي للقوة، بل أراد من خلاله فلاديمير بوتين افهام الغرب، بأن «العالم» لن يعود الى الوراء، بعد كل التطورات التي شهدها في العقود السبعة الاخيرة التي تلت هزيمة النازية والفاشية وخصوصاً في «ربع القرن» الأخير، عندما وضعت الحرب الباردة «اوزارها» وظنت قوى الرأسمالية والاستعمار، ان الامور قد استتبت لهيمنتها المنفردة تستطيع ان تفعل في المعمورة وشعوبها ما تشاء، تبطش بهذا النظام، وتغزو ذاك، تقيم قواعد عسكرية هنا، وتتمدد في اي اتجاه يخدم مصالحها، دون ردع او خشية من عقاب او مقاومة شعبية، ولا حتى اعتراض من الامم المتحدة التي أنشأتها الدول المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية على انقاض عصبة الامم التي لم تعد تفي بطموح واغراض النظام الدولي الجديد الذي نشأ بعد انتصار الحلفاء، وفي مقدمتهم الاتحاد السوفياتي، الذي انجزت جيوشه الباسلة عملية دحر النازية وتدمير معقلها الرئيسي في برلين، فيما كانت الولايات المتحدة ذاتها قد شاركت في هذه الحرب متأخراً، وبعد ان اطمأن الى ان النازية والفاشية ودول المحور السائرة في افلاكها، قد دخلت طور الهزيمة، وانها مجرد مسألة وقت، كي يتم طي صفحة النازية والفاشية وتحرير البشرية من ارتكاباتهما وجرائمهما..
طبعاً لا تستقيم المقارنة بين «الفاتورة» التي دفعها الاتحاد السوفياتي جنوده وشعوبه، وبين تلك التي دفعها الحلفاء الغربيون وخصوصاً بعد انزال النورماندي الذي تمت المبالغة في دوره، وكيف تفتقت عقلية الغرب الاستعماري التي تُبَالغ – حدود التزوير – في ما تقوم به من اعمال سواء في المساعدات ام الحروب، دون اهمال النفاق الغربي الذي لا يتوقف حول قِيَم الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الانسان وغيرها من الاسطوانات المشروخة التي يواصل اعلام هذا الغرب-الذي قامت حضارته وتضخمت ثرواته وتعملق نفوذه على نهب ثروات الشعوب واستعبادها وقهرها -..تكرارها بمناسبة وغير مناسبة.
ما علينا..
الرسالة التي اراد بوتين ارسالها الى الغرب من خلال العرض العسكري الضخم وغير المسبوق، أقله منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك حلف وارسو, كانت واضحة على نحو يصعب القول ان زعماء الغرب الذين قاطعوا الاحتفال، أو على وجه أدق الذين لم يلبّوا دعوات الرئيس الروسي لحضور العرب (حضره 30 زعيماً من اصل 68 وُجّهت الدعوة لهم) لم يستوعبوا معانيها أو يتوقفوا عند مضامينها, والحكاية ليست الازمة الاوكرانية, ولا يخدعّن احد نفسه، ويصدق همروجة الغرب التي لا تجد رواجاً لدى شعوب اوروبا ذاتها, لأن ما جرى ويجري في اوكرانيا ليس سوى احد تجليات «الغزو» الاطلسي (اقرأ الاميركي) لروسيا، ولكن بطريقة القضم البطيئة أو الزحف على مراحل لتطويق روسيا وإركاعها وتقليم اظافرها، ولم تكن زلة لسان من باراك اوباما أو مجرد سَوْرَة غضب عندما قال في روسيا اوصافاً، اراد ان يُقلِل من شأنها ويغمز من قناتها «… روسيا ليست دولة عظمى أو حتى كبرى بل هي مجرد… دولة عادية». (كذا).
هذا هو الهدف الاميركي النهائي، تحجيم الدب الروسي وحصره في حدوده الجغرافية التي لا توصله الى المياه الدافئة, ليس مياه البحر المتوسط فحسب بل البحر الأسود ذاته, ولهذا كانت المساومة الاوكرانية «الشايلوكية» على استئجار قواعد الاسطول الروسي (في البحر الأسود) وابتزاز موسكو في مدة عقد التأجير وخصوصاً قيمته بمئات المليارات من الدولارات, ما بالك في الاهداف الخبيثة التي وقفت خلف الانقلاب الذي قاده الفاشيون والنازيون الجدد في اوكرانيا ضد الرئيس السابق (المُنّتخب) يانوكوفيتش, حتى بعد التوقيع على اتفاق منيسك الذي ضمنه الاتحاد الاوروبي, لكنه «لحس» توقيعه وضمانته, بعد أن نجح الانقلابيون في السيطرة على كييف واقامة سلطتهم المدعومة من بروكسل بجناحيها الاتحاد الاوروبي وحلف الاطلسي.. أما باقي العناوين بما فيها عنوان «ضَمّ» شبه جزيرة القرم، فهو مجرد تفاصيل وتنويع على نص غربي (اميركي) واحد وهو تقزيم روسيا وإبقاؤها داخل حدودها، تمهيداً لاثارة القلائل فيها وتنفيذ السيناريو اليوغسلافي على أراضيها..
الى أين من هنا؟
ليست صدفة اذاً، ان يقف على منصة الشرف بالقرب من جدار الكرملين الرئيس الصيني شي جين بينغ الى جانب بوتين، بكل ما يرمز اليه هذا الحضور الصيني من معانٍ وسياقات سياسية في هذه الظروف العالمية بالغة الاحتقان التي تمر بها العلاقات الغربية مع روسيا، التي تتعرض لعقوبات اقتصادية قاسية, ظن الغرب الامبريالي انها كفيلة بكسر شوكة بوتين واجباره على التراجع عن «خطواته الاوكرانية»..
لم يحدث هذا التراجع، ولا يبدو أنه في صدد الحدوث، في الامدين القريب والمتوسط, فهل ينتظر الغرب مرحلة ما بعد بوتين ليبدأ عملية تفكيك روسيا؟ أم أن بوتين سيضمن لبلاده وحدتها وحضورها ودورها قبل ان يغادر مسرح السياسة؟
… الأيام ستروي.