رحل “نجم القدس” وفي قلبه “الأقصى”
وكالة الناس ــ رحل الأرشيف التوثيقي الدقيق لتاريخ القدس ومقدساتها وبيوتها العتيقة.
خدم المسجد الأقصى والقدس أكثر من نصف قرن، لم يتعب ولم ييأس خلالها رغم العراقيل والألغام التي وضعها الاحتلال في طريق مشروعه.
خاض معركته الخاصة في القضية الفلسطينية من خلال مخطوطاته وأبحاثه عن مؤامرات الاحتلال لتهويد مدينة القدس، وتوج انتصاراته بجهوده الكبيرة في إدراج القدس القديمة في قائمة التراث العالمي.
تعلق قلب رائف نجم، المولود عام 1926 في مدينة القدس، منذ صغره بكل زاوية في المدينة المقدسة التي ترعرع فيها، وبقيت حاضرة في قلبه وعقله، آخذة حيزا كبيرا في وجدانه طيلة سنوات حياته.
حصل نجم من جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن) على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية عام 1951، وعمل كصاحب مكتب استشارات هندسية وتحكيم لمهندسي الرأي.
كان أول الملفات الكبرى التي تصدى لها نجم هو إعمار المسجد الأقصى بعد إحراقه من قبل الصهاينة في آب/ أغسطس عام 1969. بما في ذلك إعادة صنع منبر صلاح الدين الأيوبي، وفي مشاريع البنية التحتية للمسجد الأقصى بكامل مساحته البالغة 141 دونما.
وأشرف على إعمار قبة الصخرة المشرفة، ووضع التصميم الخاص بتصفيح القبة بصفائح النحاس المذهبة وانتهى تنفيذها عام 1994.
ونظرا لجهوده الكبيرة فقد أسند إليه عام 1984 منصب وزير الأشغال العامة في الأردن، وفي عام 1991 تولى وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية. وعندما بدأت المباحثات للمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام بين الاحتلال والفلسطينيين والأردنيين، تقدم نجم باستقالته من الحكومة، بسبب خشيته على مبدأ عودة القدس، وبالتالي مصادرة هويتها الدينية الإسلامية والمسيحية ومكانتها الرمزية.
وتبنى نجم الفتوى الصادرة من مرجعيات دينية تدعو المسلمين من كافة الدول العربية والإسلامية لزيارة المسجد الأقصى ومدينة القدس، وذلك بنية تقديم الدعم المادي والمعنوي لسكانها عن طريق التعامل معهم بالشراء والمسكن والصلاة في المسجد الأقصى وتقديم المعونات للعائلات الفقيرة هناك.
تزامن ذلك مع تقلد نجم منصب نائب رئيس لجنة إعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة لنحو 30 عاما، وبحسب قانون لجنة الإعمار يعتبر وزير الأوقاف بصفته الوظيفية رئيسا للجنة.
ولم تشكل لجنة أو هيئة لها علاقة بالقدس والمسجد الأقصى طيلة الخمسين سنة الماضية إلا وكان نجم عضوا فاعلا فيها ومن بينها: نائب رئيس جمعية حماية القدس منذ تأسيسها، وعضو اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي العام لبيت المقدس، وعضو جمعية أصدقاء المعهد العربي بالقدس، وعضو اللجنة الوطنية الأردنية للدفاع عن القدس، وعضو اللجنة الملكية لشؤون القدس ما بين عامي 1970 إلى عام 1991.
كان الإنجاز الأكبر في مسيرة نجم المقدسية تكليفه بتجهيز ملف كامل من الصور عن المعالم الدينية والتاريخية في القدس والبلدة القديمة، وقدم إلى “اليونسكو” باسم الحكومة الأردنية. وحضر نجم الجلسات كمندوب عن الأردن، وعمل مع الفريق الأردني على إقناع ثلثي أعضاء لجنة التراث العالمي بخطورة وضع القدس، وتكللت الجهود بتسجيل القدس القديمة ضمن قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر عام 1982.
واصل نجم مسيرته النضالية فساهم في دفع الجامعة العربية إلى تأسيس مركز لترميم آثار القدس، وكان نجم مستشارا فنيا للمركز الذي تابع تنفيذ عدد من المشاريع، منها صيانة وترميم مدارس الكيلانية والأرغونية والجوهرية والمزهرية والأشرفية واللؤلؤية، وخان السلطان.
لم يتوقف عمله على إعمار المسجد الأقصى وتعدى ذلك إلى إعمار بيوت المقدسيين المجاورة للحرم القدسي في محاولة لتثبيتهم فيها وحمايتها من مصادرة عصابات المستوطنين، وكذلك ترميم البيوت والمحال الأثرية المحيطة بالمسجد الأقصى وقبته المشرفة.
وفي أثناء انهماكه في العمل الهندسي كان نجم يشارك في عشرات من الندوات والمؤتمرات العالمية والمحلية قدم فيها أبحاثا حول القدس في المحاور المختلفة: الدينية والتاريخية والعمرانية والاجتماعية والسياسية.
وأثرى المكتبة العربية بعدة مؤلفات، منها:
“كنوز القدس”، “نحو خطة عملية لإعمار المقدسات “، “القدس خلال مرحلة الاحتلال الإسرائيلي”، “القدس أنموذج للتعايش السلمي”، “الإعمار الهاشمي في القدس”، “في رحاب العلم والإيمان”، “الإعجاز العلمي للقرآن الكريم برهان النبوة “، “دليل القدس”، “المواصفات العامة للأبنية “..
وله عدد كبير من الأبحاث الإسلامية واللقاءات والبرامج التلفزيونية حول القدس، وكتاب “ذكريات” الذي أصدره عام 2001.
لم يترك القدس والأقصى حتى وهو مقعد على كرسيه المتحرك، إذ حرص نجم على حضور استكمال العمل في مشروعين من مشاريع الإعمار بالمسجد الأقصى كان قد أعد مخططاتهما، هما:
مشروع ترميم الفسيفساء والزخارف الجصية في قبة الصخرة المشرفة، والذي استمر العمل به 8 أعوام واستكمل تنفيذه عام 2016.
ومشروع ترميم فسيفساء قبة المسجد القبلي في الجامع الأقصى، واستمر العمل به على مدى عامين، واكتمل عام 2016، على نفقة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين.
وتبرع نجم بمكتبته القيمة التي تضم آلاف الكتب والمخطوطات العلمية لمكتبة اللجنة الملكية لشؤون القدس.
توفي في العاصمة الأردنية عمّان عن عمر ناهز الـ95 عاما بعد أن ترك بصمة في كل زاوية وحجر في القدس، وكان يحذر حتى اليوم الأخير في حياته من المخطط الأخير للاحتلال وهو إزالة المسجد الأقصى عن الوجود.
رحل وفي قلبه غصة تقول إن الواقع على الأرض في القدس أسوأ مما كشفته الوثائق والمخططات، وكان يحذر من أن الصمت العربي والإسلامي وعدم القدرة على تكوين لوبي ضاغط قد يدفع الاحتلال إلى تهويد القدس والمسجد الأقصى بشكل نهائي لا رجعة فيه.