كيف يعطي الغرب قيمة للحياة بعد الموت..!!
وكالة الناس – كتب. الدكتور / هاني الفلاحات
في صيف عام 2001م بُعثت الى المانيا لاستكمال مرحلة تدريب عملي على صيانة وترميم الصخر الرملي، كانت مدة البعثة شهراً كاملاً من 1/7 ولغاية 1/8، ولما كان الجو صيفياً في الأردن، توّقعت أن الجو هناك لن يختلف كثيراً، لذلك كانت حقيبتي تحتوي فقط ملابس صيفية خفيفه.
أستقبلني صديقي ايقون كايزر (Egon Kaiser) في المطار بسيارته وانتقلنا معاً الى بيته الذي هو أيضاً مركزه الخاص لصيانة الصخر الرملي وترميمه وهو يشابه صخر البتراء تماماً، وكانت رحلة طويلة ومرهقة لأنها بدأت من وادي موسى الساعة الثانية فجراً مع الأخ ابراهيم المشاعله السائق في مديرية آثار البتراء، وكان من المفروض وصولنا الخامسة صباحاً أي قبل موعد الإقلاع بساعتين، ولكننا وصلنا قبيل الاقلاع بدقائق ويذكر الاخ ابراهيم حجم معاناتنا في تلك الرحلة.
قضيت الاسبوع الأول في مركز كايزر، الذي أبلغني أن أتهيأ لقضاء تسعة أيام في مركز بافاريا لرعاية التراث والذي يقع في مدينة ميونخ مقابل الحديقة الانجليزية، كجزء من البرنامج، والحديقة الإنجليزية: هي حديقة عامة كبيرة في وسط ميونخ، بافاريا، تمتد من مركز المدينة إلي الحد الشمالي الشرقي من المدينة.
تم بناؤها وتصميمها في عام 1789 بواسطة السير بنيامين طومسون (1753-1814)، والذي سُمي لاحقاً رومفورد (الكونت فون رمفورد)، للأمير تشارلز تيودور، ناخب بافاريا (Charles Theodore, Elector of Bavaria). خلفاء طومسون، رينهارد فون فيرنك (Reinhard von Werneck) (1757-1842) وفريدريش لودفيغ فون ساشل (Friedrich Ludwig von Sckell) (1750-1823)، المستشارين على المشروع من بدايته، بدأوا تمديد وتحسين الحديقة.
مع منطقة تبلغ 3.7 كيلومتر مربع (1.4 ميل2) الحديقة الإنجليزية في ميونخ واحدة من أكبر الحدائق الحضرية العامة في العالم (List of urban parks by size).
الاسم يشير إلى نسق مشابه للحديقة الإنجليزية في تصميم المناظر الطبيعية، وهو نسق مشهور في بريطانيا منذ أوائل القرن التاسع عشر وترتبط بشكل خاص مع لانسلوت براون (Capability Brown). ذهبت الى ميونخ/ مركز بافاريا للتراث، وقابلني مدير المركز الذي أخذني في جولة للتعرف على كافة أقسام المركز، وكان المركز يعج بالتكنولوجيا المتقدمة لتوظيفها في خدمة صيانة التراث والمحافظة عليه، وفي كل قسم كان الموظفون يصطفون لاستقبالي، ثم نقوم بالجولة وكلٌ يتحدث في مجال اختصاصه، كانت تجربة رائعه وغنية جداً، فلقد غاب في عملي في الأردن توظيف التكنولوجيا الحديثة كما هو الحال في المانيا، ولكن في المقابل كان لدي مخزون معرفي من خلال تجربتي الميدانية الغنية التي -وبلا فخر- أذهلتهم.
في أحد الأقسام وعندما دخلت عليهم، تقدم شخص ربما تجاوز الستين وناداني بإسمي، وسلم عليّ بحرارة، وقال: ألم تعرفني، فقلت: الوجه مألوف لكني لا أتذكر الإسم، وتابع: أنا د. كولنثال، زرتكم في البتراء، وتقابلنا هناك، ودعوتني وزوجتي على العشاء في الكهف بجانب مخيم نزال، وكنتَ كريماً معنا، ولقد كانت رحلتنا رائعه في بلدكم الأردن، فبدأت استجمع الذكريات، وعندها ترك مدير المركز المهمة لصديقي د. كولنثال لاتمام الجولة معي، وكان فرحاً بذلك، ثم عدنا الى المكتب، ورتب لي الاقامة داخل المركز، وأعطاني مفتاح شقة الضيافة، والمفتاح للمدخل الرئيسي لكي ادخل وأخرج في أي وقت خصوصاً بعد انتهاء العمل ومغادرة الموظفين مساءً، وقال لي: أنا أدعوك الى بيتي غداً لتناول طعام العشاء، وزوجتي ستكون سعيدة بحضورك، فقلت: لا بأس، واتفقنا على ذلك الساعة الرابعة مساء الغد، حيث سيأتي بسيارته لنقلي الى بيته.
في الرابعة تماماً حضر صديقي كولنثال بسيارته وركبت معه، وانطلقنا نقصد بيته الذي كان في أطراف مدينة ميونخ ويبعد عنها حوالي 60 كم تقريباً، وصلنا الى البيت كنت يومها أشعر ببرد شديد، وأنا حساس للبرد، وكنت اذا شعرت بالبرد يتهَيّج عندي القولون العصبي، وينتابني شعور مقلق ومزعج، ويتعكر مزاجي جداً، فانعكس كل ذلك على اللقاء الأول بزوجته، ولكنه قَدّر ذلك فلقد كنت قد شرحت له معاناتي في طريقنا الى بيته، وأعطاني علاجاً للبرد لن أتحدث عنه هنا، وربما سيرد مفصلاً في مكان آخر اعتزم العمل عليه، المهم أن البرد اختفى في أقل من دقيقتين كلياً، واختفت آثاره، وعدت لطبيعتي المرحة، فلقد ألِفْتُه وكان رائعاً معي منذ اللحظة الاولى التي تقابلنا فيها في المختبر بمركز بافاريا لرعاية التراث.
يتكون بيت د. كولنثال من طابقين، ولأنه يقع على منحدر فقد كان الطابق الارضي بمثابة تسوية، والأول على مستوى موقف السيارة على الشارع الفرعي الذي يؤدي للمنزل، وكانت مساحته في الطابقين ربما تقارب الـ(200م2) أو أكثر بقليل، ورغم ذلك فهو في ثقافة الألمان والغربيين عموماً بيتاً كبيراً جداً لأي عائلة غربية، فكيف اذا كان هذا المنزل لعائلة صغيرة جداً تقتصر على زوج وزوجتة فقط، وهما الدكتور كولنثال وزوجته. عندما دخلت المنزل لأول وهلة كنت تحت تأثير المزاج (النكد)، كان البيت بجدرانه وأرضياته وأدراجه مليئاً بالصحون والأطباق بمختلف الاحجام؛ من أكبر “سدر” نعرفه وحتى صحن فنجان القهوة وربما أصغر من ذلك، الصحون من كل الأنواع والأحجام، ومن مختلف المواد والألوان، كلها حديثة وبعضها عمرة من المنشأ بضع سنوات فقط، رغم أني لاحظت وجود صحون وأطباق تراثية ربما عمرها عشرات السنوات وفي أقصى تقدير ربما مئة عام.
المكان (المنزل) غير تقليدي، صحون وأطباق في كل مكان، فكان لا بد من السؤال: ما هو سِرّ تجمع هذه الكمية من الأطباق في منزل يعيش فيه رجل وزوجته؟ وجاءني الجواب من د. كولنثال بحضور زوجته كالآتي على لسان د. كولنثال الذي قال: تعرفت على زوجتي هذه ونحن زملاء في الجامعة قبل اكثر من خمسين عاماً، وجمعت بيننا هواية جمع الأطباق، وتعمقت علاقتنا وأحببنا بعضنا ثم تزوجنا، وأصبحنا أستاذين في نفس الجامعة، وقررنا أن لا ننجب أطفالاً يشغلوننا عن هوايتنا، ثم قررنا أن نسافر في كل عام مرتين؛ واحدة في نهاية الفصل الدراسي الثاني، والرحلة الثانية في نهاية كل عام في أعياد رأس السنة، وفي كل رحلة ندرس خياراتنا ونختار دولة من دول العالم، وفي كل رحلة كنا نجمع الصحون والأطباق من مختلف البلاد والثقافات.
وتابع: ولأننا متخصِصَيْن في التوثيق المتحفي ولدينا خبرة طويلة بذلك، كنا ندوّن قصة كل صحن نشترية، من حيث المنشأ، والمادة المصنوع منها، وثمنه بعملة المنطقة وما يقبلها باليورو أو العملات الدولية، ووظيفته بحسب الثقافة التي جاء منها، ودلالات الألوان والرسومات بحسب ثقافة تلك المنطقة، وما الى غير ذلك من معلومات تتعلق بالصحن، وكنا عندما نعود للمنزل نقوم بتوثيق المعلومات بتفاصيلها في سجل خاص بعد أن نعطي الصحن رقم متحفي في سجل خاص يذلك.
وتابع: إستمر هذا النشاط سنوات، وجمعنا خلالها كمية جيده من الصحون والأطباق، وقررنا أنا وزوجتي أن تكون هوايتنا هي ذريتنا التي ستذكرنا بعد موتنا، وتقدمنا الى بلدية ميونخ بمقترح يقضي بأن يكون البيت لنا ما دمنا أحياء، وتبرعنا به بعد موتنا للبلدية بكل محتوياته، ليصبح ملكاً لبلدية ميونخ التي وافقت على أن تجعله “متحفاً للصحن العالمي” (International plate museum) تماماً كما اقترحنا عليها، وتم تنظيم عقد بيننا وبين البلدية، فقامت البلدية باشراكنا على نفقتها بتأمين صحّي وتأمين على الحياه.
أذهلتني الفكرة، فلم آلَفْ شيئاً من هذا القبيل، ولم تُذهلني فقط، بل ألجمتني حتى عن السؤال، وبدأت أظهر إعجابي بالفكرة عموماً، فسألته عن البتراء، وهل كان لها نصيب في هذا الكم من الصحون، فقال: نعم، من البتراء ومن كل مناطق الأردن التي زرناها، وكذلك من الدول العربية، ومن أكثر من مئة دولة في العالم.
لا ندري متى سيتم إطلاق متحف الطبق (أو الصحن) العالمي (International plate museum)، حتماً سيكون بعد وفاتهما – أطال الله عمرهما-، وسيشمل المتحف كل أدواتهما، ومختارات من لباسهما، وسريرهما، وكل مقنياتهما الشخصية، وسيظل كل من يزور المتحف يتعرف على سيرتهما بكل تفاصيلها، هذا ما أراداه، فالاولاد في المجتمع الغربي لا يرتبطون بوالديهم كما هو الحال في مجتمعاتنا العربية والاسلامية، ولذلك هم ينسلخون عن العائلة مبكراً.
وفي كثير من الأحيان لا يعودون اليها، بينما تُعَظّم إنجازات الأشخاص، ولقد رأيت في عدة أماكن أنصاب (جمع نُصُب) في ساحات عامة تسمى (Plaza) لأشخاص كان لهم أدوار مميزة في تاريخ أمتهم أو منطقتهم مهما كان هذا الدور بسيطاً، ولذلك نجد في ثقافة المجتمعات الغربية دوماً أشخاصاً يبحثون عن التميز، بل غالباً ما يفنون أعمارهم وراء هدف لكي يُحققوا الابداع والتميز، وذلك لأنهم يعلمون الى درجة اليقين أن الناس والحكومات سوف تُخلّد هذه الانجازات والابداعات، وهذا ما لا نجده في مجتمعاتنا – مع كل أسف -، بل حتى المبدعون في مجتمعاتنا يتجاهلهم الناس، وتتعامى عنهم الحكومات، وربما كانت الأسباب معروفة للجميع.