العاذْريّات في قاع الجفر ..!!
وكالة الناس – كتب/ د. هاني الفلاحات
في صبيحة يوم الاربعاء الموافق 8/2/2012م، وبناءً على طلب مدير عام الآثار بالوكاله، توجهت الى منطقة الجفر شرق مدينة معان بحوالي 80كم للتحقق من معلومات وردت الى معالي وزير السياحة والآثار عن مواقع ذات قيمة تراثيه عاليه. وبعد التواصل مع مصدر المعلومات، افاد ان هذه المواقع تقع على بعد 60كم شرق الجفر، وتحركنا الى تلك المنطقه نعبر قاعاً واسعاً منبسطاً مستوياً.
ففي مثل هذا المكان فقط يتشكك المرء في حقيقة كروية الارض، طبيعة هادئة كأن لم يطأها بشر، بإستثناء خطوط عجلات المركبات التي عبثت في هدوء المكان، فهي ارض بكر خاليه من كل اسباب الحياه، ورغم نبل الهدف وبراءة السبب الذي ذهب بنا الى هناك، إلا انني اشعر برغبة جامحه ان كون في كل موطيء قدم هناك دون ان اترك اثراً، لان بكارة الطبيعة اجمل وأطهر من ان تُدَنس. في قاع الجفر تسير لساعات في سياره مُسْرِعَه، وفي كل الاتجاهات، فلا تلقى حداً، وترى عظيم صنع الله، ويأتي في الذهن مباشرة قول الحق: “واذا الارض بسطت”.
فاستحضرت من تراث الامه كيف ان هذه ارض المحشر وحق لها ان تكون بتقدير رب العالمين، ففي القرآن الكريم تتجلى قيمة الجغرافيا الاردنية، فعن ارض الاردن قال الحق: “غلبت الروم بأدنى الارض”، وعلى ارض الاردن اصحاب الكهف والرقيم، وهي ايضاً مباركة، قال الحق سبحانه: “سبحان الذي اسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله”.
في قاع الجفر ترى من حين لآخر شجيرات صفراء يابسه، وارض قاحله، ولا ترى اشجاراً، ولا ترى عمراناً ولا ابنية سواء للاقدمين او حتى للمعاصرين، اغلب ما يمكن ان يُشاهد كرات حجريه تنتظم احيانا في الحجم، تكبر وتصغر، لكنها تتجمع في منطقة واحده في مجموعات هنا وهناك احياناً منتظمة دون تفسير، واحيانا بشكل فوضوي يمكن ان ننسبه لتلك الطبيعة الغريبه عن إدراك البشر، لان لحظات تشكلها غاب عنها الانسان، في غياب الجرأه على تطويع تلك البيئة القاسيه.
في عظمة هذا المكان إستذكرت العرب الانباط، عندما كانوا يتشتتون في صحراء الاردن الشرقيه لاتقاء هجمات الرومان اكثر من مَرّه، كما إستذكرت كيف حطّم الانباط احلام الرومان في الوصول الى مصادر المُرّ واللّبَان عندما اضاعهم الوزير سلي/ او صالح دليلهم النبطي في الصحراء، تلك الارض التي غلبها تجار الانباط واستعصت على غيرهم؛ كما إستذكرت عظمة جيوش الفتح الاسلامي التي عبرت هذه الغياهب بمعاونة ارباب الصحراء بإمتياز العرب الانباط، وإستذكرت ايضاً حجم العناء الذي صادفة قادة الثورة العربية الكبرى بمعاونة عوده ابو تاية والحويطات في عملية الالتفاف القاسية التي كانت خارج حسابات العثمانيين، عندما جاءوهم من باير عبر قاع الجفر الى غدير الحاج وفصوعة ثم محطة معان.
وحق لي ان أستجمع ملامح التاريخ الاردني في عظمة هدوء المكان، وسكون الفيافي، واي تاريخ اعظم من تاريخ الانباط صانعي الابجدية العربيه، واي تاريخ اشرف من تاريخ الفتح الاسلامي الذي اخرج الناس من الظلمات الى النور، واي تاريخ اثبت من تاريخ النهضة العربية ضد قوى التجهيل والاستعمار.
قاع الجفر المنطقة الواسعة جداً، هي مجمع الماء من المطر الغزير الذي يسقط على تلك المناطق، وفي ذلك يقول اهل تلك النواحي ان امطار الشراه وراس النقب ومعان تتجمع في قاع الجفر، ومن قاع الجفر يتغذى حوض الديسة، وفي سنين الخير تبقى مسطحات الماء عدة اشهر، وفي لهيب الصحراء الجاف، يتراءى للناس الماء، فإن لم يكن حقيقةً كان سرابا.
فالقاع في لغتنا العربيه بحسب لسان العرب هو: الـمكانُ الـمستوي الواسعُ فـي وَطاءَةٍ من الأَرض يعلوه ماء السماء فـيمسكه ويستوي نباته، أَراد أَنَّ ماء الـمطر غسَله فابـيضَّ أَو كثر علـيه فبقـي كالغَدِير الواحد، وفـي الـحديث: إِنما هي قِـيعانٌ أَمْسَكَتِ الـماءَ، قال الأَزهري: وقد رأَيت قِـيعانَ الصّمّانِ وأَقمتُ بها شَتْوَتَـيْنِ، الواحد منها قاعٌ وهي أَرض صُلْبةُ القِفافِ حُرَّةُ طينِ القِـيعانِ، تُمْسِكُ الـماء وتُنْبِتُ العُشْبِ، ورُبَّ قاعٍ منها يكون مِيلاً فـي مِيلٍ وأَقل من ذلك وأَكثر، وحَوالَـيِ القِـيعانِ سُلْقانٌ وآكامٌ فـي رُؤوس القِفافِ غلـيظةٌ تَنْصَبُّ مِياهُها فـي القِـيعانِ، ومن قِـيعانِها ما يُنْبِتُ الضالَ فتُرَى حَرجاتٍ، ومنها ما لا ينبت وهى أَرض مَرِيَّةٌ، إِذا أَعْشَبَتْ رَبَّعَتِ العرب أَجمع (لسان العرب، مادة: قوط).
كما جاء عند ياقوت الحموي في معجم البلدان: الصّمّان أيضاً فيما أحسب: من نواحي الشام بظاهر البلقاء؛ قال حسان بن ثابت: لمن الدّارُ أوْحشَتْ بمعانِ بين شاطي اليرموك فالصَّمّانِ في قاع الجفر الواسع سألت دليلنا عن إسم المنطقة، فقال: العاذريّات، لانني ارى في تفسير الاسم احياناً ما يُدّلِلُ على وظيفته التاريخيه، وبحثت في ذلك، فوجدت ان دلالات العذر/العاذر لا تتوافق مع طبيعة المكان الذي شاهدت بعض تفاصيله، بينما مدلول كلمة عدر اقرب الى المنطق وربما كان الاصل “العادريات”، فحرفها الناس ليتداولوها العاذريات، ففي لسان العرب: العَدْرُ و العُدْرُ: الـمطر الكثـير.
وأَرض مَعْدُورةٌ: مـمطورة ونـحو ذلك. قال شمر: واعْتَدَرَ الـمطرُ، فهو مُعْتَدِرٌ؛ وأَنشد: مُهْدَوْدِراً مُعْتَدِراً جُفالاً، والعادرُ: … وعَدَرَ الـمكان عَدَراً واعْتَدَرَ: كثر ماؤه. (ابن منظور، لسان العرب، مادة: العادر- عدر). أما القاموس المحيط فقد جاء فيه ان: العَدْرُ: الجُرأةُ، والمَطَرُ الشديدُ الكثيرُ، ويُضَمُّ. عَدِرَ المَكانُ، كفَرِحَ، واعْتَدَرَ: كَثُر ماؤُهُ. …، وعَنْدَرَ المَطَرُ، فهو مُعَنْدِرٌ: اشْتَدَّ.
واعْتَدَرَ المكانُ: ابْتَلَّ من المَطَرِ (القاموس المحيط، مادة: العادر، عدر). اما كلمة الجفر فتدل على الاتساع، فالـجُفْرَةُ، بالضم: سَعَةٌ فـي الأَرض مستديرة (لسان العرب، مادة: جفر). ما اعظم هذه الارض، وما اعظم إنسانها وما اعظم إنجازاتنا الحضارية، وسحقاً لكل متشكك في هذه الارض وإنسانها.