حكمة حلبية رائدة
في بداية مشوارة الفني تعاقد الفنان فريد الأطرش مع متعهد محلي من مدينة حلب السورية، لإحياء عدة حفلات غنائية في المدينة ،وكان الأطرش ينتظر فتح الستارة على أحر من الشطّة والجمر معا.
فتحت الستارة ، واذا بالقاعة الكبيرة فارغة، الا من عشرة اشخاص ينتظرون المطرب بتجهم وانتباه. فوجئ الأطرش بهذا الجمهور القليل ، وحاول الإنسحاب من الحفل، الا ان المتعهد قال له بأنه ملتزم -حسب العقد- ليغني ، وليس له الحق في الإعتراض على عدد الجمهور ، ثم ابتسم المتعهد وطمأنه قائلا بأن هذا هو الوضع الطبيعي في الحفلة الأولى ، وفي مدينة حلب تحديدا.
لم يرض ولم يفهم فريد الأطرش الموضوع ، وغنى كامل فقرات الحفل لعشرة اشخاص فقط. بعد انتهاء الحفل ، دخل الأطرش على المتعهد فوجده فرحا وسعيدا ومتفائلا، رغم أن الحفل يعتبر خاسرا بجدارة من الناحية الماليه. قال المتعهد للأطرش:
-انتظر الى الغد ..وسوف ترى!!
في اليوم التالي ، عندما فتحت الستارة كانت القاعة ممتلئة تماما، فغنى الأطرش كما لم يغني من قبل ، واستمر النجاح يوما فيوما حتى انتهاء برنامج الحفلات . لكن (نكسة ) الحفلة الأولى كانت لا تزال عالقة في ذهن الأطرش ، ولما سأل واستفسر ، عرف الموضوع.
والموضوع يا سادة، هو أن هؤلاء العشرة الأوائل ، يسمونهم ب(أذان حلب) وهم لا يسمحون لأي حلبي بحضور حفل غنائي ، الا اذا كان المطرب مستوفيا الشروط الفنية ، وذلك خوفا على الأذن الحلبية من سماع النشاز. وهكذا يحضر هؤلاء الحفل الأول ، ثم يقررون اذا ما كان المطرب يستحق السماع أم لا ، وبعدها يسمحون او لا يسمحون لأهالي المدينه بسماعه. وقد نجح الأطرش في الأمتحان.
واختفى الأطرش واختفى المتعهد واختفت المدينة ، وظهر مكانها شعب عربي كبير من المحيط الى الخليج ينتظر رأي العشرة الأوائل الذين لم يجدهم بعد، لعلهم يدلونه على الطريق الصحيح.
ففي خضم الهجوم الإعلامي الكبير على الدماغ العربي ، هذا الهجوم الكاسح الذي حول الإنسان العربي الى مجرد متفرج على شاشة فضية .
خبراء استراتيجيون ومحللون سياسيون واجتماعيون سياسيون وباعة يانصيب ليس خيريا … الجميع يفتي ويعلق على احداث ، عرفها عن طريق التلفزيون ….. جميعنا بلا مرجعيات، سوى الشاشة الفضية وبعض الصحف والمواقع الأليكترونية والأذاعات..وجميعها تحصل على معلوماتها من الفضائيات.
لا احد يعرف ماذا يحصل في الدولة الشقيقة ، والمدينة الشقيقة والحارة اللصيقة والعمارة المجاورة والشقة الشقيقة، وفي بيته ايضا ..لا احد يعلم ما يجري الا اذا قالوا له انه جرى ….. لا احد يعلم الحقيقة.انها مجرد حقيقة افتراضية ..نتعاطاها لكأنها الحقيقة المطلقة.
ما احوجنا الى عشرة الى خمسة الى واحد …. الى أذن حقيقية مصغية تماما وتدرك الحقيقة تماما ، وتخبرنا اياها كما هي بالضبط وليس كما يريدون أن نعرفها.
ما احوجنا الى العشرة
في السياسة والإقتصاد والعلم والدين والدنيا !!