واشنطن إذ تتجرع «قرار المصالحة»
حين يتحدث الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته، عن استمرار وجود “فرصة” للتوصل إلى حل سياسي تفاوضي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فمعنى ذلك أنهما تخطيا “تحفظاتهما” إزاء القرار الوطني الفلسطيني باستعادة المصالحة واسترداد الوحدة، وانهما في موقفهما هذا، يلاقيان الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي شدد بعد التوقيع على “اتفاق غزة الأخير”، بأن المصالحة لن تكون عقبة على طريق التفاوض والحل السياسي، عندما تتوفر شروط استئناف التفاوض والوصول إلى الحل … وفي خطابه امام المجلس المركزي لمنظمة التحرير في رام الله، حدد مواصفات هذا الحل وشروط استئناف المفاوضات، والتي تبدأ بالإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، ولا تنتهي بوقف الاستيطان ورفض “يهودية الدولة”.
في المقابل، لم تتأخر حكومة نتنياهو عن توظيف “سانحة المصالحة” للمضي في تعطيلها للمفاوضات وجهود كيري … إذ قبل أن تتشكل حكومة الوحدة الوطنية، وقبل أن تعلن برنامجها، شرعت حكومة اليمين واليمين المتطرف، في تنفيذ مروحة واسعة من العقوبات الاقتصادية والأمنية، وتعلن عن “وقف المفاوضات” مع الجانب الفلسطيني، في مسعى خائب منها، لتحميل الفلسطينيين وزر الفشل الذي تسببت هي به، لمهمة كيري.
المغزى الرئيس لتصريحات أوباما – كيري الأخيرة، يقول: إن أحداً في العالم لن يكون بمقدوره أبداً، منع الفلسطينيين من التوحد، وأن دعوات استمرار الانقسام والفرقة، لا تصمد طويلاً أمام صوت العقل والمنطق والحكمة، وأن الفلسطينيين إن أرادوا ترتيب بيتهم الداخلي، لن تنجح أية قوة في العالم، في منع ذلك، أو حتى الاستمرار في الاعتراض عليه.
صحيح أن السلطة والمنظمة ستواجهان متاعب كبيرة بعد المصالحة، لجهة استدرار الدعم المالي والاقتصادي، وأحياناً السياسي، من بعض العواصم الإقليمية والدولية، بيد أن الصحيح كذلك، أن “إدارة ملف المصالحة” بحكمة ومسؤولية، من شأنه أن يجعل من تحمل هذه المتاعب، واحتواء تداعياتها، أمراً ممكناً في نهاية المطاف.
خلال سنوات الانقسام العجاف الفائتة، كان واضحاً أن كثير من العواصم الأوروبية، وحتى بعض الأوساط الأمريكية، قد ضاقت ذرعاً بدورها بهذا الانقسام، وأخذت تنظر إليه بوصفه عقبة في طريق المفاوضات و”حل الدولتين” … ولطالما أبلغنا مسؤولون ودبلوماسيون غربيون، بأن حكومات بلدانهم لن تكون عقبة في طريق المصالحة، وأنها ستتعامل معها عند إتمامها، وأنهم يرجون ألا تكون المصالحة عقبة في طريق “حل الدولتين” … وأحسب أن هذا هو ما يجري اليوم وإن بهدوء.
وصحيح أيضاً، أن كثيرٍ من حملات الابتزاز والتهويل قد شُنّت على السلطة لثنيها عن السير في طريق المصالحة، تحت ضغط “قوانين محاربة الإرهاب” في بلدانهم، وتصنيفهم الظالم لحركتي حماس والجهاد كمنظمات إرهابية، بيد أن الصحيح كذلك، أن كثير من هذه الدول والعواصم، كانت مدركة لـ “الخصوصية الفلسطينية” بل ولخصوصية “حماس” و”الجهاد” اللتان لم تسجلا على نفسيهما، أية اعتداءات على أهداف غير إسرائيلية.
خلاصة القول: أن تصريحات أوباما – كيري عن “فرصة المفاوضات المستمرة”، تعني أن واشنطن لن تذهب إلى خيار “العزل السياسي للسلطة”، واستتباعاً لن تذهب إلى خيار “العزل الاقتصادي”، برغم الصعوبات التي ستعترضها مع الكونغرس الأمريكي، الذي أظهر في محطات تاريخية عديدة، إنه “صهيوني” أكثر من الكنيست الإسرائيلي ذاته.
وإذا كنا لا نستبعد على الإطلاق، ان تقع السلطة والمنظمة في ضائقة سياسية واقتصادية ومالية في قادمات الأسابيع والشهور، إلا أننا على يقين بانها ستكون قادرة على تجاوز هذا المنعطف، وبأقل قدر من الخسائر، إن توفرت الإدارة الكفؤة والنوايا الحسنة والثقة المتبادلة، لملف المصالحة، فلا أحد باستثناء إسرائيل، لديه مصلحة في انهيار السلطة وإضعاف المنظمة وقتل حلم الفلسطينيين في الحرية والاستقلال.
وأحسب أن حكومة نتنياهو تدرك ذلك وتتحسب له، وأخشى ما تخشاه تل أبيب هو أن يكسب الفلسطينيون معركة “العلاقات العامة”، ويدرؤون عن أنفسهم المسؤولية في تعطيل مهمة كيري وإفشال المسار التفاوضي، فيما “المصالحة” تستكمل حلقاتها وفصولها، وعضوية فلسطين في المنظمات والمعاهدات الدولية، تصبح أمراً واقعاً ومعترفاً به دولياً … ولعل هذا ما يفسر حالة “الاهتياج” الإسرائيلية، والتي اتسمت بالطيش والغطرسة، كما كشف عنها القرار الإسرائيلي بوقف المفاوضات من جانب واحد.