جبر جابر العثرات!
ليس مهما رفع أسعار الأشياء والخدمات وسلب الحريات، أو تضييق سبل عيش المواطن العربي، فهذه منظومة متوالية لن تقف عند حد، في ظل الظروف التي يعيشها الوطن العربي الكبير..
أقترح -جادا- أن نمنح المواطن العربي عموما جائزة ما، يتم استحداثها بعد دراسة مستفيضة، جائزة تعبر عن امتنان الدولة له، فهو الممول الرئيس لميزانيتها خاصة في البلاد غير البترولية، فهو مثلا يدفع في غالبية البلاد العربية ما يزيد على ثمانين ضريبة، تبلع أكثر من نصف دخله، المحدود أو اللاموجود أصلا، وهو أيضا مواطن يتحلى بكل صفات «أيوب» صبور ومثابر وسكوت، ويلهج لسانه بالشكر على كل إجراء، ويعتبر نفسه منذورا لإكمال النصاب، أي نصاب يشاءون، وهو جابر عثرات الميزانيات وعجزها الدائم، والمستهلك المثابر لكل ما تقذف به الصناعات الوطنية إن وجدت، والمستكين لكل الاجتهادات، والمصفق المرحب بكل القرارات، انه مواطن وادع يستحق منا كل رعاية لتشجيعه على مزيد من المواطنة الصالحة الممتثلة للمشيئات كلها، ما ظهر منها وما بطن.
انه يذكرني بأمي -رحمها الله- التي كانت تعتذر ان ضحكت، وتداري وجهها ان تبسمت، تصحو باكرا قبل الكل، تبدأ عملها بالشكر والثناء على «نعمة» البقاء حية حتى الآن، ولا تخلد لفراشها الا حينما ينام الكل، وتطمئن على أنهم جميعا يتدثرون جيدا بأغطيتهم، ليس لها مطالب محددة إلا رضا الله ثم أبي والجميع، كانت توبخني ان «أزعجت» أحد الجيران بردي على اعتداءات أحد أطفاله، وكانت تنتهر اخواني ان رفعوا أصواتهم جراء مشاجرة، فنحن أسرة «مستورة» لم يسمع صوتنا أحد، ويجب أن نبقى كذلك، كانت «مواطنة» تعطي بلا حساب في الأسرة، وهذا هو شأن «مواطننا» الحبيب!
مواطننا يستقبل كل القرارات بالقبول لسبب مهم ورئيس، انه يعتقد -دائما وجازما- أن أهل الحل والعقد يرون أفضل، لأنهم يشرفون على الصورة من علٍ، وهم يعرفون المصلحة أكثر منه، وهو يعرف حده فيلزمه، وهو موقن أن الوطن يستحق منه أكثر مهما أعطاه، حتى ولو كلفه هذا الأمر التبرع بأحد أبنائه، ألا يسامح بدم طفل هرسته سيارة بفنجان قهوة؟ فكيف لا يتسامح مع قرارات «مدروسة» بعناية تستهدف إبقاءه عند حد اللهاث وراء رغيف الخبز، حتى لا تزوغ عينه الى ما هو أكثر، ما يضر بالمصلحة العامة، ومصلحته الشخصية، فلا يخطط أبدا لاقتراف فعل مناف للجوع أو الفقر!
إنه مواطن صالح وأيوب وعلى باب الله، وحليم جدا، لكن يتساءل سرا بينه وبين نفسه: الى متى؟؟
هذا المواطن جابر العثرات، يذكرني –أيضا- بقصة جبر الذي مر على قرية فرأى على شواهد قبورها عبارات مثل: هنا يرقد فلان بن فلان الذي عاش يومين أو شهرا أو سنة أو سنتين، وحينما سأل عن سر هذه الأرقام قيل له أنهم يكتبون الزمن الذي عاشه الفقيد سعيدا، وليس عدد السنوات التي عاشها، حينها أطرق جبر مليا، ثم قال: اكتبوا على قبري: هنا يرقد جبر.. من بطن أمه للقبر!