مانعة الصواعق
البرسترويكا والجلاسنوست ، كلمتان دخلتا بقوة على العربية في النصف الثاني من ثمانينيات القرن المنصرم ، وقد اطلقهما الرفيق – سابقا- الرئيس السوفييتي قبل الأخير غورباتشوف، وكان يعني بهما المكاشفة والشفافية، في محاولة لعلاج الأسباب التي ادت الى الكثير من الإنهيارات داخل الأمبرطورية السوفياتية الكبرى .
ليس من نيتي الدخول في الجدل البيزنطي فيما اذا كان الرفيق غورباتشوف (ابو طبعة جنان) خائنا ام بطلا شجاعا أم بينهما، لكني انوي اكتشاف اسباب – أو سبب- فشل الجلاسنوست والبروسترويكا في انقاذ الإتجاد السوفييتي ، الذي تكسر بعدها مثل الثريا الكريستالية العملاقة الى العديد من الأجزاء.
السبب بسيط، لأن زلمتناـ اعتمد الروشيتة الخاطئة في علاج اسباب انهيار الإتحاد السوفييتي، واعتقد بأن المكاشفة والشفافية هما العلاج الشافي والوافي للأمراض المتراكمة داخل العملاق الإشتراكي المنهك.
أما انا فأعتقد بأن الإتحاد السوفييتي سقط لأنه كان يخلو من الساخرين المعارضين الناقدين منذ تشكيله ، رغم أن لينين كان ساخرا كبيرا وناقدا وهجّاءا فجّا لمن يخالفه الرأي ، الا ان الرأي الآخر كان مقموعا من البداية ، فكيف بالساخر !!.
طبعا هناك الكثيرمن الساخرين الذين سلطوا سياطهم على الكولاك والرجعية والمانشفية وجميع اعداء الحزب الحاكم في الداخل والخارج ، لكن هؤلاء انضموا الى الجوقة الحاكمة في تبرير الأخطاء والدفاع عنها أمام الشامتين والساخرين . ولم يعدم الأمر من ساخرين حاولوا ممارسة النقد البناء فكان ان قتلوا او سجنوا في سيبيريا او هربوا على شكل منشقين وخونة .
لم يحتمل الرفاق من يسخر من انجازاتهم الدونكيشوتية في كافة المجالات ، وخصوصا المجال الإقتصادي ، حيث كان التقارير تصدر من الكولوخوزات والسوفخوزات بان كل الأمور عال العال وتمام التمام ، لا بل أن بعض الخطط الإقتصادية كانت تنفذ بنسبة 120%….كل هذا كان على الورق ، بينما السوق يخلو من كل شئ ، والشعب يصف بالطوابير على كل شئ .
الماركسية ، ورغم كونها علما ،كما يقولون ، الا انها كانت تحتاج الى نقد دائم بداخلها ، تماما كما فعل مؤسسها كارل ماركس ، وكان ينقد نفسه باستمرار ويعيد حساباته ويتخذ مواقف مناقضة لما كان يتخذه من مواقف قبل اشهر … كل هذا لأنه كان يسخر من استنتاجاته السابقه ، فيكتشف استنتاجات جديدة ، لكنها لا تصبح مطلقة بل تظل -هذه الجديدة- عرضة للنقد الدائم.
الماركسية بعد ان تحولت الى حزب حاكم، والى سلطة،حملت جميع مساؤئ السلطات السابقة ، لا بل اكثر منها، لأنها كانت تمارس الأخطاء تحت مظلة الشرعية الثورية ، التي تبيح سجن وقتل وتصفية كل من يعترض على اجراءاتها المطلقة … هذا حولوا الماركسية الى دين بنصوص مطلقة من الخيانة والكفر ان نفكر في نقدها.
استمر هذا القمع للساخرين حتى النهاية ، مع ان بعض الساخرين مثل الروائي الكبير جنكيز ايتماتوف ، الذي حاول التحذير من هذه البيروقراطية القاتلة في روايته (وداعا يا غولساري) التي حولت الحصان الى بغل هرم ، وأطلق تحذيره الأخير في روايته «السفينة البيضاء» حيث يموت الطفل في الرواية ، ولما سألوه عن السبب قال ..اذا بقينا هكذا ..سيموت الطفل ..وفعلا بقي الحاكمون هكذا حتى انهار الإتحادي السوفييتي العظيم .
الساخرون هم مانعة الصواعق وصمام الأمان في المجتمع ، وهم الذين يشخّصون العيوب ويحذرون منها قبل فوات الأوان . ومجتمع بلا ساخرين هو مجتمع آيل للسقوط الكبير.
وانها لسخرية حتى النصر ..وبعده.