النظام الدولي … ما بعد ضم القرم
حملات التصعيد والتصعيد المضاد بين روسيا والغرب، لم تضع أوزارها بعد، ويبدو أن مسلسل العقوبات والعقوبات المضادة، مرشح للاستمرار والتصاعد في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة.
على أن المتتبع لمشهد التأزم في العلاقات الدولية الراهنة، يلحظ أن جل الاهتمام الغرب لا ينصب الآن على استعادة شبه جزيرة القرم، أو بالأحرى، إعادتها للحضن الأوكراني … هذه المسألة باتت وراء ظهرونا جميعاً، والغرب يتعامل مع القرار الروسي بضم شبه الجزيرة، بوصفه أمراً واقعاً، سيعيش معه ويتعايش مع تداعياته، وهكذا تفعل أوكرانيا برغم الرطانة عالية النبرة التي يتحدث بها قادتها الجدد، بما في ذلك نبرة التصعيد العسكري التي تتجلى في استدعاء جزء من الاحتياط وقرار تسليح بعض المليشيات في المناطق الجنوبية والشرقية.
الغرب، ومن خلفه كييف، يسعيان إلى وقف الشهية التوسعية الروسية عند حدود شبه الجزيرة، الروسية أصلاً … فالمعركة التي يخوضها الغرب ضد موسكو، تهدف إلى منع التمدد الروسي إلى عموم أرجاء أوكرانيا، وبالأخص بعض مناطقها الجنوبية والشرقية، وتحت المبررات والذرائع ذاتها.
والغرب بتصعيده خطاب المواجهة مع روسيا، وتهديده بعقوبات مستدامة، لا يتوقف أثرها على المدى القصير والمرئي فقط، وإنما يمتد للمديين المتوسط والبعيد على حد “تهديد” وزير الخارجية البريطانية، إنما يريد قطع الطريق على احتمالات إعادة إنتاج “سيناريو القرم” من قبل دول أخرى … فالصين لديها مشكلة في “تايوان” ومعها ولديها مشاكل “جزر” متنازع عليها مع اليابان، وثمة قضايا حدودية معلقة في عدد من دول العالم وقاراته.
سيمضي الغرب في حملته لمعاقبة روسيا إلى أبعد مدى ممكن، فهناك من يطالب بطرد روسيا من عضوية الكثير من المنظمات الدولية، بما فيها مجموعة الثمانية الكبار، وثمة عقوبات اقتصادية وعسكرية ودبلوماسية ستتوالى ضد موسكو، والأرجح أن “الناتو” سيسعى في تعزيز وجوده العسكري في جمهوريات البلطيق وعلى مقربة من الإطار الجيوستراتيجي للاتحاد الروسي، وغير ذلك مما ستتفتق عنه ذهنية صناع القرار في عواصم الغرب الكبرى.
لكن الغرب، يقف أمام “المسألة الأوكرانية” مجرداً من أية خيارات باستخدام القوة أو حتى التلويح بها … الأمر الذي يثير التساؤل والشك في قدرة العقوبات الاقتصادية والتجارية وغيرها، على دفع الرئيس فلاديمير بوتين على “تغيير حساباته” … فمثل هذه العقوبات، وأشد منها، لم تسقط النظام في طهران، ولم تفلح في دفع الرئيس الأسد إلى “تغيير حساباته”، فما الذي يدفع الغرب للاعتقاد بأن هذه الوسيلة ستكون ناجعة مع روسيا، الدول الكبرى، التي ترتبط بعلاقات وثيقة، متعددة المسارات والمجالات، مع دول كبرى أخرى، مثل الهند والصين ومجموعة “البريكس” وغيرها.
ثم، من قال إن الموقف الدولي، يبدو موحداً في مواجهة خطوة الكرملين؟ … هناك العديد من العواصم الأوروبية التي لا تجاري واشنطن ولندن وباريس في حماسها الظاهر لتصعيد نظام العقوبات ضد موسكو، سيما وان معظم إن لم نقل جميع عواصم الغرب، تدرك أن لموسكو “حيثياتها” الخاصة فيما خص الكرملين، ليس لأنها تاريخياً قطعة من روسيا اقتطعت منها قبل بضعة عقود من السنين فقط، بل ولأن غالبية سكانها من أصول روسية وناطقين بلغة وطنهم الأم، كما أن التغيير الذي حصل في كييف، يصعب الدفاع عنه بصلابة من منظور ديمقراطي، وكييف كانت كاشفة لمعايير الغرب المزدوجة، فإذا كان احتشاد خمسين ألف متظاهر في ساحاتها (من أصل 45 مليون أوكراني) سبباً كافياً لإعطاء الانتفاضة الأوكرانية لوناً برتقالياً، فلماذا يصر الغرب على تسمية ما حدث في الثلاثين من يونيو في مصر (أكثر من 20 مليون متظاهر مصري) انقلاباً، وليس ثورة لا برتقالية ولا خضراء؟.
يدرك الغرب أن ثمة حدوداً ضيقة لما يمكن أن يأتيَ به لنصرة حلفائه كييف، وهم بدأ يتعامل مع مرحلة “ما بعد ضم شبه جزيرة القرم” … وتدرك روسيا أن ليس بوسعها إعادة انتاج “سيناريو القرم” أو تعميمه على بقية مناطق أوكرانيا، بما فيه مناطق شرق وجنوب البلاد، من دون أن يترتب على ذلك أكلاف هائلة … والمؤكد أن “خطوطاً حمراء” جديدة سترتسم بين “المعسكرين” على الأرض الأوكرانية، تقف بموجبها روسيا عند حدود القرم، ويتعهد فيها الغرب وحلفاؤه الأوكرانيون، بضمان أمن وسلامة ومصالح روسيا والروس في بقية المناطق الأوكرانية، مع تسريع خطوات انضمام كييف إلى الاتحاد الأوروبي، وربما إلى حلف شمال الأطلسي.
وإلى أن يتبلور “التوافق الدولي الجديد” عند هذه “الخطوط” وحولها، فإن مناخات التوتر وانعدام الثقة، وسياسات عض الأصابع واستعراض العضلات، ستفعل فعلها على الساحة الدولية، وتحديداً في بؤر الأزمات المشتعلة، إذ في الوقت الذي سيحاول فيه الغرب الرد على روسيا في ساحات أخرى، بعيداً عن منطق الاشتباك المباشر أو حروب الوكالة المفتوحة والساخنة، فإن من المتوقع أن تصعّد روسيا من إجراءاتها الداعمة حلفائها على الساحة الدولية، بمن فيهم الرئيس الأسد، ما يعني أن شوطاً طويلاً يتعين قطعه على طريق “تطبيع العلاقات الدولية” قبل أن يصبح الحديث عن “جنيف 3” أمراً ممكناً.