ايهما أخطر : الأسود أم القرود ؟!
الفراغ الذي يتركه المعتدلون ، حين نطاردهم بالتضييق او الاستئصال يملؤه في العادة ( المتطرفون) و المتشددون، وعندئذ يمكن ان نلوم هؤلاء على تطرفهم وان نحاسبهم عليه ،لكن قبل ان نلومهم ونحاسبهم لا بد ان نسأل أنفسنا : ما الحكمة من اطفاء اصوات الاعتدال ، وما المصلحة من استبدال الاسود بالقرود ؟
بمناسبة ذكر الاسود و القرود ، تقول احدى القصص ان سكان احدى المناطق في دولة افريقية اشتكوا الى الوالي من وجود بعض الاسود في الغابة المجاورة لهم ، واستأذنوه في قتلها بعد ان اكل بعضها ابناءهم، وافق الوالي على طلبهم وتخلصوا من الاسود ، لكنهم بعد ايام فوجئوا بوجود اسراب من القرود تقتحم عليهم منازلهم ، وتعبث في ممتلكاتهم ، فذهبوا مرة اخرى الى الوالي لكي يستأذنوه بقتلها ، لكنهم فوجئوا عندما تكفلوا بمهمة ( تصفية) القرود ان اعدادها كبيرة ، وانهم كلما قتلوا عددا منها توالدت اخرى … فأدركوا حينها ان وجود الاسود هو الذي كان يمنع هذه القرود من غزوهم … فذهبوا واشتروا اسودا اخرى .
حين تدقق في القصة تجد أنها تكررت وماتزال في واقعنا ، خذ – مثلا- ما حدث في مصر خلال العقدين المنصرفين من القرن الماضي ، فقد خرجت جماعات ( العنف) و التكفير من رحم الانسدادات السياسية التي قيدت حركات ( الاعتدال) الاسلامي ( ابرزها الاخوان المسلمون) ، وخذ ما حدث في الجزائر في السنوات العشر الاخيرة من القرن الماضي ، حيث ادى الانقلاب على صناديق الانتخابات التي فاز فيها الاسلاميون الى ظهور جماعات العنف ، ودفعت الجزائر في عشريتها الدموية مئات الالاف من الضحايا و الايتام والمصابين ، وخذ – ثالثا- ما جرى ويجري في العراق ، فقد اختلفت موازين العدالة و الاعتدال ، وتم اختطاف اصوات العقلاء وطردهم من الملة الوطنية لحسابات طائفية ،والنتيجة ما نراه من جماعات احتكمت للسلاح ، وتفجيرات لا تستثني احدا من الابرياء .
كان يمكن لمجتمعاتنا ان تتعايش مع ( الاقوياء) حتى لو كانوا اسودا ، وان تتكيف مع اوضاعهم ومطالبهم ما داموا يتمتعون بقليل من الحكمة ومادام عناوينهم معروفة ، لكنها حين قررت ( الخلاص) منهم وجدت أمامها أصنافا اخرى من البشر (اسف القرود) الذين لا يمكن التفاهم معهم ،ولا يعرف احد من اين يأتون و لا كيف يتصرفون ، وهم بالتالي اخطر من الاسود .
الان ، للأسف تتكررالتجربة نفسها في عالمنا العربي ، فقد ادرج المعتدلون في وصفة الارهاب ،واصبحوا بنظر القانون ( منبوذين) وممنوعين من الحركة او الفعل ، فيما بقي ( المجال) مفتوحا لمن يملأ هذا الفراغ ، وقد حصل ان تسابق اليه هؤلاء الذين لا يريدون ان يقعوا في الفخ الذي وقع فيه غيرهم ،أقصد ( فخ) الاحتكام الى الديمقراطية او القانون ، فاختاروا المواجهة بالعنف ، ووجدوا ان التطرف هو الرد الافضل لاثبات وجودهم و الدفاع عن حقوقهم .
في بلدان العالم التي أنعم الله عليها ( بالديمقراطية) يتصرف الفاعلون في المجالات السياسة ( و غيرها ايضا) تبعا لأوزانهم في الشارع ، هذه التي تقررها الصناديق الانتخابية ومؤشرات ( السوق) وبرامج الخدمات التي يقدمونها للناس ، و بتصرفون بمنطق ( الاسود) فهم جميعا انداد وشركاء ، لا فضل لاحد على احد الا بمقدار ما يبدع في خدمة الناس ، و لا سبيل لطرف ان ينقلب على الاخر او ان يحكم عليه ( بالردة) السياسية او ان يمنعه من الوصول للناس ، او ان يبادره بوصفة ( الارهاب) فالصناديق هي التي تحكم ، والقانون – وحده- كفيل بمطاردة القرود – وما اقلهم- حين يخرجوا على النظام العام او ان يهددوا سلامة المجتمع .
في بلداننا العربية – للأسف- ثمة منطق آخر ، فنحن لا نطيق رؤية ( الاسود) و اذا كان لابد ( فأسد ) واحد (كما في سوريا) ، وهو كفيل بتصفية باقي المحسوبين على (النسل) ، اما القرود فحدث و لا حرج .
اختم بقصة اخرى ، يقال ان سكان احدى المناطق المشهورة باصطياد الثعالب من اجل الحصول على ( فرائها) الثمينة قرروا ان يقتلوا ( الذئاب) التي تعتاش على هذه الثعالب و تشاركهم في ( ثروتها الفرائية) بعد ان تقلصت لهذا السبب ، لكنهم حين نجحوا في قتل الذئاب ، اكتشفوا بأن فراء الثعالب لم يعد كما عهدوه ، فقد اختفى منه (الوبر) وصارت الفراء مجرد جلود يابسة ، وحين استفسروا عن السبب وجدوا ان ( جودة) الفراء تعود الى هرمون ينتعش بسبب الخوف ، بمعنى ان وجود الذئاب كمصدر خوف دائم للثعالب هو الذي يجعلها تنتج فراء جيدة .
حين نسأل عن ( فقر) مجتمعاتنا في المجالات السياسة و العلم والابداع و غيرها لا بأس ان نتذكر دائما بأن غياب ( الذئاب) كمصدر للتهديد يجعل هذه المجتمعات اكثر استرخاء واحساسا بالامن ،لكنه استرخاء يدفع الى الكسل ، وامن يغري على قبول الفقر و الاستمتاع به …
انتهاء الدردشة