ليست حرباً باردة ولا ساخنة
لم تكن الحرب البادرة صراعاً بين قوتين عظميين للاستحواذ على العالم وانتزاع مساحات أوسع للسيطرة والنفوذ، هذا كان مظهراً من مظاهر تلك الحرب وشكلاً من أشكال تجلياتها المختلفة … الصراع الحقيقي كان محتدماً بين إيديولوجيتين ونموذجين، أراد كل فريق من الأفرقاء المصطرعة، تعميمه وضمان انتصاره، لا في “المناطق المتنازع عليها” فحسب، بل وفي عقر دار الفريق الآخر… الحرب الباردة انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين وهزيمة المعسكر الاشتراكي، ما مكّن منظرو المعسكر الآخر من التبشير بالإنسان الآخر وإعلان “نهاية التاريخ”.
اليوم، ومع تزايد الحديث عن عودة روسيا إلى ملاعب السياسة والنفوذ الدوليين، بقوة وأحياناً بتحدٍ، عاد الحديث عن “حرب باردة” جديدة، في طريقها لتطبع العلاقات الدولية، وتقرر وجهة السياسات والاستراتيجيات العالمية حيال القضايا الأكثر تفجراً في المنطقة … بدأ الأمر مع تعاظم الدور الروسي في الأزمة السورية تحديدا، وتطور على نحو غير مسبوق، مع اندلاع الأزمة الأوكرانية، وتحديداً بعد اتضاح معالم القرار الروسي بضم جزيرة القرم الاستراتيجية، تحت غطاء حماية الناطقين بالروسية، وحق القرميين في تقرير مصيرهم، وبصورة تحاكي سيناريو “كوسوفو”، وثمة من يقول سيناريو “اسكتلندا”، مع أن الأخير يبدو مقحماً تماماً، ومنزوعاً من سياقه.
من حيث الشكل، يبد أن الصدام بين القوتين العظميين، يأخذ شكل الحرب الباردة، من حيث توتراتها وأدواتها وساحات المواجهة المفتوحة فيها، بما فيها ساحة “مجلس الأمن”، وخيار “التلويح” بالقوة، وتوفير الدعم والمظلة للحلفاء بصرف النظر عن سجلهم في الحكم والمعارضة على حد سواء … تستوي في ذلك الولايات المتحدة وحلفاؤها مع روسيا وأصدقائها.
لكن ما ينزع عن هذه “المواجهة الدولية” صفة “الحرب الباردة” من وجهة نظرنا، أن روسيا الاتحادية اليوم، ليست الاتحاد السوفييتي بالأمس … فلا نموذج لديها قابل للتصدير، أو مرغوب في استيراده، ولا إيديولوجيا تنافح بها عن فقراء العالم من عمال وفلاحين وشعوب مستعمرة تتوق للحرية والاستقلال … روسيا اليوم، ليست لديها القوة الأخلاقية، حتى وإن كانت “مُتخيلة” كما كان عليه حال الاتحاد السوفييتي المنحل … روسيا اليوم، دولة رأسمالية من الحجم المتوسط اقتصادياً، أما اقتدارها العسكري، فموروث في بنيته الأساسية عن الحقبة السوفييتية.
لا دور للإيديولوجيا في الصراع الدولي الدائر حالياً على النفوذ والأدوار و”المجالات الحيوية” … وثمة من روّج لنظرية “سقوط الإيديولوجيا” مع انهيار جدار برلين، ومنذ ذلك التاريخ، لم يثبت أن للإيديولوجيات أدواراً محركة في صنع التاريخ الراهن والجاري للبشرية، اللهم إلا إذا نظر البعض لـ “السلفية الجهادية”، إيديولوجيا القاعدة وتفرعاتها، بوصفها الاستثناء لتلك القاعدة، وأحسب أنه استثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها.
روسيا تتطلع لدور على الساحة الدولية، يليق بها وبحجمها وبتاريخها الامبراطوري، من القيصرية حتى الشيوعية … لكن روسيا تعرف تماماً أنها ليست نداً للولايات المتحدة ومن خلفها المعسكر الغربي بمجمله … هذه مقاربة تفوق قدرة روسيا على الاحتمال، وتتخطى أعباؤها قدرات الاقتصاد الروسي على الصمود … لكن موسكو، وهي تعرف محددات قوتها وقدراتها، تتطلع للعب دور الشريك على المسرح الدولي، أقله في بعض أزماته، حيث لروسيا مصالح استراتيجية لا يمكن نكرانها أو إدارة الظهر لها … روسيا تقاوم تهميشها وتسعى في درء الزحف “الغربي” الذي يحيط بها من جهاتها الأربع، ويكاد يتهددها في عقر دارها وليس في فنائها الخلفي.
نحن العرب، أو الكثيرون منا على الأقل، نعيد مع روسيا ذات الأخطاء التي قارفناها مع الاتحاد السوفييتي القديم … اعطينا لموقف روسيا من قضايانا ما لم تحتمله موسكو أو تقبل به … وضعناها من قبل ومن بعد، في خانة الحليف الاستراتيجي الذي لن يتورع عن إخراج صواريخه الاستراتيجية من مخابئها دفاعاً عن هذا “الزعيم” أو تلك العاصمة أو حتى تلك “المنظمة”، ولم نبذل جهداً ولو لمرة واحدة، في قراءة الخطاب الروسي ذاته، وكيف تنظر موسكو إلى علاقاتها بنا ومعنا … أسقطنا تفكيرنا الرغائبي على الموقف الروسي، وانتهينا بخيبات أمل، كبرى ومتكررة.
ليس معنى ذلك أن روسيا ليست صديقاً، وقد تكون صديقاً مقرباً أو مشروع حليف، بيد أن روسيا اليوم ابتداء ليست الاتحاد السوفييتي بالأمس … وروسيا لا ترى إلينا بنفس العدسة أو المنظار التي يتطلع بعضنا من خلالها صوب موسكو … روسيا دولة لها مصالح، تعرف حدودها، والأرجح أنها ستقف عندها، فهل نكف عن لعبة استبدال الرغبات بالحقائق؟