مفاوضات جنيف… سلوك نفس الطريق لا يوصل إلى نهايات مختلفة
لا تختلف الجولة الثانية من المفاوضات في “جنيف 2” عن جولتها الأولى قبل أسبوعين، سوى بانتقال الخلافات الحادة بين الأفرقاء السوريين أنفسهم، إلى رعاتهم الدوليين، وتحديداً موسكو وواشنطن، حيث تؤكد كافة التغطيات للمفاوضات الدائرة منذ عدة أيام، أن “الوسيطين الدوليين” باتا بأمس الحاجة لمن يتوسط بينهما.
العقدة هي هي، فريق الحكومة يريد البدء بملف العنف والإرهاب، من دون أي تعهدات من أي نوع، بخصوص هيئة الحكم الانتقالي، أو الخطوة التالية لوقف العنف، فيما فريق المعارضة، لا هم لديه خارج إطار “هيئة الحكم”، لكأنه في عجلة من أمره لاستلام مقاليد السلطة ومفاتيح دمشق، مع أن الوقائع الميدانية على الأرض، تجعل المرء حائراً في فهم “سقف المطالب العالية” لوفد المعارضة، لكأن جحافل “الائتلاف” تقرع أبواب القصر الجمهوري في دمشق، أو لكأن الاحتضان الغربي للوفد منقوص الشرعية والتمثيل والنفوذ، يعطيه تفوقاً سياسياً وميدانياً، وهذه محاولة لم نر مثيلاً لها في تاريخ المفاوضات، والأرجح أنها ستمنى بالفشل الذريع، فالاستقواء بالأجنبي وحده، غالباً ما يصبح نقطة ضعف وكعب أخيل، لا ورقة قوة أو ميزة إضافية.
والحقيقة أن وفد الحكومة بدا محقاً في مطالبته بإعطاء الأولوية لوقف العنف ومحاربة الإرهاب وتحصين الحدود في وجه التدخلات الخارجية حفظاً لسيادة سوريا وسلامة مواطنيها، بيد أنه لم يكن محقاً على الإطلاق، في سعيه لحصر البحث بالأمن وحده، ومن خلال أجندة أمنية بالأساس، من دون أن يتقدم بخطوة واحدة، باتجاه رسم ملامح الأفق السياسي للمعالجة، فمن ذا الذي سيعطي النظام مثل هذه “الورقة” بالمجان، من دون أن يعرف أنه سيضع خطوته التالية على سكة حل الأزمة السورية سياسياً، ثم أن الحديث عن “التدخلات الخارجية” لا ينبغي أن يكون محصوراً بحلفاء المعارضة وداعميها، فالذين يتدخلون لصالح النظام، هم أيضاً “خارج”، وتدخلاتهم لا تصب أبداً في حفظ سيادة سوريا واستقلالها ومستقبل شعبها.
في المقابل، يبدو الفريق التفاوضي للمعارضة، غير ذي صلة عند البحث في الملفين معاً … فلا هو ممثل “ذو صدقية ومقنع” للمعارضات السورية المختلفة، ليتولى التفاوض على الانتقال السياسي، فتبدو مطالباته بتشكيل هيئة الحكم الانتقالي بمثابة بحث عن وظائف ومناصب لحفنة من السياسيين الذين يواجهون بطالة حقيقية، ولا يمثلون “نصف الائتلاف”، دع عنك بقية أطياف المعارضة ومكوناتها، وهنا تبرز مفارقة ثانية، مفادها أن الوفد المعارض الذي يشكو تفرد النظام واستئثاره بالحكم، يمارس في الوقت ذاته، عملية استئثار وتفرد، بل وإقصاء لكل مكونات المعارضة السورية وتياراتها، فهل المقصود بـ “هيئة الحكم الانتقالي”، انتقال السلطة من النظام إلى هذه الحفنة من المعارضين، بمعزل عن إرادة الشعب السوري ومختلف مكوناته وأطيافه وطوائفه؟
أما الشق الأمني من البحث، والمتصل بوقف العنف ومحاربة الإرهاب، فإن معضلة الوفد المعارض معه، تبدو أشد تعقيداً … فهو يخفق من جهة في “الاعتراف بوجود الإرهاب وإدانته”، ويسعى في حصره في أضيق نطاق ممكن، ويدّعي أنه هو من يحارب الإرهاب، عملاً بنظرية سعت أطراف عديدة لترويجها مؤخراً، ومفادها أن “داعش” ليست سوى ذراع لنظام الرئيس الأسد، إن لم تكن الوجه الآخر لعملته.
ومن جهة ثانية، فإن وفد المعارضة، يعرف كما يعرف الجميع، بأنه غير قادر على قطع أي التزام بوقف العنف ومحاربة الإرهاب، حتى وإن رغب في ذلك، ذلك أن إخفاقه في حفظ هذا الالتزام والوفاء به، سوف يفضح الحدود التمثيلية الضيقة للغاية لهذا الوفد، فهو غير مؤثر على الأرض، ولا تتبع له أي من الكتائب المسلحة، بما فيها بقايا الجيش الحر، الذي تحدث أركانه عن “عدم تمثيل وفد الائتلاف لهم” … ومن الطبيعي أنه لا “يمون” على “النصرة” و”داعش” و”الجبهة الإسلامية”، وهي القوى الضاربة في المعارضة المسلحة، والمعروفة بانتمائها تنظيمياً أو سياسياً وفكرياً للقاعدة وخطابها “السلفي الجهادي” الذي يكفر الديمقراطية ولا يجيز التفاوض، ويسخر من حقوق الإنسان والتعددية، ويسعى في إقامة الخلافة على أي جزء يجري “تحريره” من الأراضي السورية.
انتهت جولة المحادثات الثانية في “جنيف 2” من دون تقدم يذكر، والأرجح أن المراوحة ستظل سيدة الأحكام، طالما ظل الموقف الدولي على “إنكاره” لطبيعة الحقائق التي تجري وتتفاعل على أرض سورية، ومن بينها أن التيارات الرئيسة للمعارضة ليست ممثلة على مائدة المفاوضات، وفي ظل وضع كهذا، يصعب ممارسة أي ضغط جدي على النظام لفتح أفق سياسي للمعالجة، بدل الاستمساك بالأمن، مدخلاً ومخرجاً من المفاوضات … ومن دون أن تحضر بقية أطراف المعارضة المدنية والديمقراطية والوطنية السورية، سيصعب إقناع الروس بممارسة ضغط جدي على حليفهم في دمشق، ويصعب استجرار دعم إيراني لمسار التفاوض في جنيف.
والخلاصة: أن الأسباب التي أدت إلى فشل أول جولة من المحادثات في “جنيف 2”، هي ذاتها الأسباب التي أدت إلى فشل الجولة الثانية … ببساطة، لأنك لن تصل إلى نهاية مختلفة، إن أنت واظبت على سلوك الطريق ذاته، وما من أحدٍ تطوع خلال الفترة الفاصلة بين الجولتين التفاوضيتين، لبذل جهد لتوفير شروط نجاح هذه المفاوضات، وهي شروط سبق وأن عددناها في هذه الزاوية بالذات، وبعد فشل الجولة الأولى من المفاوضات، ونعيد التذكير بها اليوم: توسيع وفد المعارضة إلى المفاوضات ليشمل معظم إن لم نقل جميع المعارضات السورية … استدراج إيران إلى حلبة التفاوض والمعالجة السياسية … والشروع في مفاوضات على مسارات متزامنة ومتوازية، تبحث في كل المواضيع من دون استثناء، وتؤخذ نتائجها كحزمة واحدة، بدءاً بالجانب الإنساني والإغاثي ووقف القتل ومحاربة الإرهاب.