بريد مُوقَّع من الملك
كنت صحفياً في العام الرابع من ممارستي لمهنة المتاعب، وإذ كنت أعيش وأعمل في لندن، عام سبعة وتسعين، والكآبة الإنجليزية تقتل روحي كل يوم، وإذ بقصة مبرّة الأيتام الشهيرة ومعاناة أيتامها تتفجر في عمان، في وجه الحكومة التي كانت آنذاك.
أيامها تابعت القصة عبر وسائل الإعلام العربية والأجنبية في لندن، وإذ كنت أرى غضب الملك الراحل الحسين بن طلال على ما يلاقيه الايتام في المبرّة، وكيف أخذ الملك الايتام الى قصره، وحوَّله الى قصر لهم، فإن مشاعرك تبقى انفعالية امام المشهد، وهو مشهد لا يخلو بطبيعة الحال من سياسة في بعض التفاصيل!.
لم أتوقع في حياتي أن أتلقى رسالة من ملك، وإذ كتبت يومها للملك الراحل رسالة أطلب فيها ان يأخذ ملف الايتام مسرباً فاعلا لعلاج قضاياهم، وتأمين احتياجاتهم، وكتبت للملك اقتراحات كثيرة، لدعم الايتام في البلد، على صعيد التشريعات والدعم المالي والتعليم والتشغيل، وطيرّت الرسالة عبر الصندوق البارد للبريد البريطاني لينقلها الى عمان، فلم اتوقع ابداً ان تأتيني رسالة رد من الملك الراحل.
كتبتها لمجرد احساسي بالأيتام، وتأثري بالقصة، وكنت اريد فقط أن أشارك برأي في الموضوع، اساسه ألا تكون القصة مجرد «فزّعة» وان يكون العمل مخططا ومستمراً لأجلهم، فلم يؤذنا في حيانا إلا الموسمية و»الفزْعات» كما يقولون، والرسالة قد لا تختلف عن ملايين الرسائل والبرقيات التي تهل سنويا على بريد الديوان الملكي.
يومها كان المطر شديداً، والطارق على مكتب المجلة حيث أعمل يأتيني بمغلف لبريد سريع ومضمون، وقعت على الاستلام، وأنا لا أعرف مصدر الإرسالية، وإذ بها مغلف ذهبي، عليه التاج الملكي، ومصدر البريد من عمان!.
فتحت المغلف واذ به رسالة من الملك الراحل يرد فيها على رسالتي، و إذ بقيت الرسالة سراً خاصاً لدي حتى اليوم، لم اشهره ولم أعلنه، فإنها بقيت تقول الكثير عن ملك يحسب له انه بنى الاردن الحديث، وله في كل مكان حكاية.
قال الملك في رسالته.. «السيد ماهر ابوطير المحترم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنه ليسعدني بعد أن أنارت ثلة من براعم الوطن البريئة قلوب الاردنيين العامرة بالخير والمحبة والاصالة الاردنية المعروفة ان اتقدم منكم بجزيل الشكر ووافر الامتنان على هممكم الخيرة وتبرعاتكم السخية المتمثلة بتقديم اقتراحات تفيد بمستقبل الاطفال التي تعكس ما في قلوبكم وضمائركم من حب لعمل الخير واداء الواجب الانساني، تقربا الى الله تعالى ونصرة الانسان والانسانية».
يضيف الملك ..»انني اشد على اياديكم البيضاء، وقد كنتم على المدى رفاقي وابنائي وبناتي الذين يتنافسون على البذل والعطاء، ويبذلون النفس والنفيس لبناء وطن حر عز نظيره، من اعظم سماته المحبة والتراحم بين جميع ابنائه وبناته وقيم الشهامة الاردنية العربية الاصيلة التي تميز النسيج الاجتماعي لهذا الوطن، طوبى لكم وانتم تسطرون في سفر الكرم والجود ازهى وابهى الصفحات، لتبقى مشاعل مضيئة بكم ما دام في الوطن نشامى اردنيون ينشدون الخير لهذا الوطن ويبنون بسواعدهم الكريمة هذا الصرح الشامخ، فجزاكم الله خيرا على ما قدمتم، وحسبكم انكم ما خذلتموني ولا خذلتم انفسكم في ساعة ضيق او امتحان لانسانيتكم».
ويختم الحسين الرسالة…»اكرر شكري لكم، داعيا المولى عز وجل ان يحفظكم ويسدد على طريق الخير خطاكم انه نعم المولى ونعم النصير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. اخوك الحسين بن طلال، في الحادي عشر من اذار من عام سبعة وتسعين».
توقيع الملك على الرسالة كان يقول الكثير، اذ لم يكن ملكاً عادياً، واذ بقيت الرسالة كل هذه الأعوام دون اشهار، فلأنها بقيت خاصة جداً بالنسبة لي، في ذاك العمر، حين كنت في بدايتي في المهنة، وبعيداً جداً، خلف سبعة بحار، فيترك الملك في قلبك اثراً لا يمحى لأنه تعامل بإنسانية وتواضع عز نظيره مع رسالة من صحافي في بداية حياته المهنية.
رحم الله الحسين، فقد كان انساناً قبل اي شيء آخر، وبقيت انسانيته وتواضعه سر علاقته بالناس، وبقي رأي من اقتربوا منه، ومن خاصموه ايضا، رأيا واحدا، فلم يكن رجلا عاديا.