منابع عديدة ومصب واحد!
ما نعيشه على مدار اللحظة وليس الساعة فقط يبدو لمن ألفه وتأقلم معه عادياً، لكنه حفلة تعذيب مستمرة لمن لا يزالون على قيد الوعي الآدمية، والتيارات الثقافية العبثية واللامعقولة والسوريالية التي سلم فيها الأدب العربي بسبب وقاره المصطنع وتواطئه مع السائد بحثاً عن النجاة هاجرت الى السياسة، لهذا علينا أن نبحث عن أمثال يوجين يونسكو وصاموئيل بكيت وسلفادور دالي في واقعنا السياسي لا الثقافي ومسرحية «الذي يأتي ولا يأتي» ذات المصدر الفرنسي الأدبي أصبحت في عالمنا العربي سياسية بعدة امتيازات وليس بامتياز واحد كما يقال.
فالحرية والتحرير والحقوق كلها أتت ولم تأت، وأتت في مقالات وندوات فقط وأحياناً في شعارات موسمية تبشّر بها المظاهرات، لكنها لم تجرؤ على طرق ابواب العرب أو حتى التسلل من نوافذهم لأنها فاكهة محترمة، واحيانا تجد من يطردها على الفور لأنه لا يطيقها على طريقة ما وصفه العالم النفسي اريك فروم بالخوف من الحرية.
إن العبث واللامعقول أصبحا من عالم السياسة لا من عالم الأدب والفن، ويكفي لخطاب واحد أن يوضع تحت المجهر النفسي كي يتضح ما أعنيه، ولكيلا نقترب من المحظور القومي والمسكوت عنه سأروي حادثة بطلها سياسي عربي معروف بحماسته وسرعة انطفائه، لأنه اشبه بما يسمى في الفيزياء «الحديد المطاوع» مقابل ما يسمى «الحديد الصلب»، فهو يفقد المغناطيسية التي يكتسبها بالسرعة ذاتها.
حاورته قبل اوسلو إذا صح لنا أن نستبدل تقاويم ما قبل التاريخ وما بعده بما قبل اوسلو وما بعده حول اليهود الذين يقدمون إطروحات مضادة للصهيونية، ويتهمون تبعاً لذلك من الراديكاليين بالعقوق الأيديولوجي والأخلاقي يومها صرخ في وجهي مستنكراً وشاجباً ما اقول، فاليهود كما يرى هم اليهود ولا شيء آخر، ولا فرق لديه بين بيغن وتشوفسكي أو بين بن غوريون وألن غريش، وانتهى الحوار دون أن نتبادل أي اعتذار ثم التقيته في عاصمة عربية بعد اتفاقية اوسلو، لأجد أنه استدار مئة وثماني درجات، واصبح له اصدقاء وربما شركاء من اليهود الصهاينة وليس من اليهود الذين حاولت أن افرزهم عن غيرهم من المتصهينين، فصاح في وجهي مرة اخرى، وبدأ يضرب الأمثلة ويستحضر المواعظ وحتى الآيات الكريمة ليقنعني بأن اليهود بشر مثلنا وأنهم ضحايا تاريخ غاشم!
ولم أجد لدي ما أقوله غير الضحك حتى البكاء، لأن شرور البلايا تخلط حابل قناة الدمع بنابل الضحك.. وأخيرا سألت الرجل عن سر تغيير رأيه، فهل تغيّر اليهود أم هو الذي تغير، وما ذنبي بأن أكون مخطئاً مرتين؟
يتكرر هذا مراراً، فثمة من يأخذون الكلام من فمك ثم ينسون بمرور الوقت ويعيدونه إليك لكن بمبالغات لا تشوههه فقط، بل تقلبه الى الضد بشكل كاريكاتوري.
للمرة المليون نقول حذارِ من الغلاة لأنهم يلتقون جميعاً في مصب واحد رغم تباعد واختلاف المنابع!