تونس إذ تفيض علينا بدروسها
للمرة الثانية في غضون أعوام ثلاثة، تتصدر تونس المشهد العربي، كتجربة رائدة ونموذج قابل للدرس والاحتذاء … هي أول الربيع، منها انطلقت الشرارة الأولى للثورات والانتفاضات العربية… وهي أول نموذج للانتقال السلمي / التوافقي للديمقراطية … تونس منحتنا الأمل مرتين، ونحن في أشد الحاجة والشوق لأية بارقة أمل في ليل العرب البهيم الذي أرخى سدوله على صدورنا وأفئدتنا لأكثر من أربعين عاماً … المرة الأول حين قادتنا للطلاق البائن بينونة كبرى، مع مرحلة الركود والاستنقاع المديدة والمريرة، والمرة الثانية، حين أعادت إلينا الثقة بأننا أمة تستحق حريتها وجديرة بصنع نموذجها الخاص للانتقال إلى ضفافها.
هي تونس، المجتمع العربي الأكثر انسجاماً في مبناه وتكوينه، والأكثر غنى وثراء في تعدديته ونشاطية قواه المدنية والسياسية والحزبية والاجتماعية … هي تونس حيث الجيش الوطني المحترف، يلزم “بركاساته”ويترفع عن ألاعيب السياسة وانتهازية السياسيين، وحيث المجتمع المدني متأسس على أرضية صلبة من الوعي بدوره، وحيث الحركات النسائية تعرف وظيفتها، ولا تنتظر ممولاً من هنا وداعما من هناك ليقول لها ما تفعل … هي تونس حيث يفتح الناس شرفات منازلهم على الشطر الشمالي من المتوسط، لا على الصحاري والبوادي القفار، التي لم تنتج سوى فقهاء الظلام وفقه التكفير وتقطيع الرؤوس.
تونس هذه، بكل إرثها وموروثها، أنتجت واحدة من أكثر الحركات الإسلامية انفتاحاً وتفتحاً، وحركات علمانية تأهلت لتكون ندّا قوياً، ونقابات عمال وأصحاب مهن، عابرة للأحزاب، بل ووضعت نفسها فوقها، عندما أدارت المصالحة وأشرفت عليها وقادت مسيرة الانتقال الصعبة والحرجة إلى ضفاف الأمان.
هي تونس التي تأبى إلا أن تظل وفية لدورها الطليعي في احتضان حركات التحرر الوطني العربية والعالمية، وفي القلب منها حركة التحرر الوطني الفلسطينية، فكانت الدولة الأولى، الوحيدة حتى الآن، التي “تدستر” مناصرة فلسطين واحتضانها، وتجعل من ذلك بنداً متقدماً على جدول أعمال الشعب والمجتمع والدولة.
كلمة السر في التجربة التونسية هي “التوافق”، لم تستفرد النهضة بحكم البلاد والتحكم برقاب العباد، قادت البلاد من ضمن ترويكا متعددة المشارب، وعندما حزمت المعارضة أمر شتاتها ودورها، انفتح الباب على مصراعيه لصياغة واحد من أرقى الدساتير العربية على الإطلاق، وأنجبت حكومة محايدة لإدارة الانتخابات بعد أن أمكن لمختلف القوى الفاعلة التوافق على قواعد اللعبة ومنظومة الحقوق والواجبات وهوية الدولة وطبيعة نظامها السياسي.
تونس أيضاً تجربة قصيرة في الانتقال إلى الديمقراطية، بيد أنها بخلاف مصر، كانت حافلة بالتقدم على مضمار بناء التوافقات وصون الوحدة ونبذ الإقصاء والاستئصال والتهميش … هذا ما لم يفعله إخوان مصر ولا عسكرها، فكانت السنوات الثلاث حافلة بأنهار الدماء الزكية التي هُدرت مجاناً على مذابح الإقصاء والتهميش المتبادل … لقد أحبّ التونسيون بلدهم، فعرفوا كيف يعملون على صونه وحفظ دماء أبنائه وكراماتهم.
لم يكن أبداً طريقاً وردياً مفروشاً بالزهور والرياحين … لكنه من بين مختلف دول الربيع العربي، كان الأقل كلفة والأقل دموية، والفضل في ذلك لا يعود لفريق دون غيره، بل يعود لكل التونسيين، من الدولة العميقة وغير العميقة، إلى الحركة الإسلامية والحركات العلمانية، إلى المجتمع المدني ومنظمات النساء والعمال والأعمال، الكل شركاء في الثورة، والكل شركاء في حفظها وقيادتها إلى شاطئ الأمان.
وطريق تونس نحو الديمقراطية لم ينته بعد، فالمشوار ما زال طويلاً وحافلاً بالتحديات الجسام، بدءاً بملف الجماعات الإرهابية التي تتغذى من تيار سلفي وافد على الحياة والمجتمع والثقافة التونسية من صحاري العرب وبواديهم … والملفات الاقتصادية والاجتماعية الثقيلة، كفيلة إن لم يجر “حلحلتها” على نحو سريع وموفق، بتنغيص حياة التونسيين وإفساد فرحتهم بدستورهم وحكومتهم وانتخاباتهم القادمة … وفوق هذا وذاك، ثمة قوى إقليمية، عربية وغير عربية، تتربص بتونس، ولا تريد لها أن تكون مثالاً يحتذى في العيش المشترك بين الديمقراطية والاستقرار، فبعض العواصم العربية الأكثر تسلطاً وفساداً، ما انفكت تروّج لنظرية أن الفوضى والحرب الأهلية هما صنوان للديمقراطية ورديفان لها، علّها بذلك تخيف شعوبها وتدفعها للانكفاء عن المطالبة بحقوقها في العدالة والعيش الكريم والحرية.
لكن الشوط الذي قطعه التونسيون بنجاح حتى الآن، يُشعرنا بالثقة بأن التجربة التي أينعت في تونس، ستورق فيها وستمتد ظلالها الوارفة إلى أرجاء أخرى في دنيا العرب، ألم تفعلها تونس أول مرة، فلماذا لا تفعلها ثانية وثالثة ورابعة؟