هل غيّرت واشنطن سياستها حيال سوريا؟
سرّب أمنيون أمريكيون وأوروبيون أنباء عن قيام الإدارة الأمريكية بتسليم أسلحة خفيفة وصاروخية مضادة للدروع إلى المعارضة “المعتدلة” والعاملة أساساً في جنوب سوريا، في وقت كانت فيه مصادر مقربة من دمشق، تتحدث عن سيناريو توجيه هجمات قوية ضد النظام السوري، تقوم بها قوى مسلحة مدعومة بالمال والعتاد والرجال من “الخارج”، والهدف: كسر شوكة النظام ودفعه للانصياع لشروط “جنيف 1”، وتحديداً تلك المتصلة بتشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة تشمل الأجهزة الأمنية والجيش.
قبل ذلك، كانت الولايات المتحدة قد رفعت نبرة خطابها ضد الأسد شخصياً، وتعهدت إدارتها بالعمل على حماية الأقليات في حال سقوط نظام الأسد، في محاولة لنزع هذه الورقة من يد النظام وحلفائه… وقبل ذلك أيضاً، كانت الدوحة حاولت عبر تمويلها لتقرير عن تعذيب منهجي شمل 11 ألف سجين أن تضع الأسد في خانة “مجرمي الحرب” وذلك قبل ساعات معدودات من بدء مؤتمر مونترو، تزامناً مع نشر تقارير إعلامية غربية تنحو للمبالغة في تقدير أعداد “المجاهدين” العرب والأجانب الذين يعملون إلى جانب النظام ويقاتلون دفاعاً عنه … والأهم من كل هذا وذاك، أن الخطاب المناهض للرئيس السوري ونظامه، أولى جُلّ تركيزه مؤخراً للربط بين “داعش” و”نظام الأسد” باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، والهدف لا ينحصر فقط بسحب ورقة “محاربة الإرهاب” من يد النظام، بل وإلصاق تهمة الإرهاب به وبحلفائه، حيث بدأنا نسمع “نغمة” جديدة في لبنان وعلى لسان قادة الائتلاف السوري المعارض، تنحو باتجاه إقامة التماثل بين “القاعدة” و”حزب الله”، بوصفهما تنظيمين إرهابيين يصطرعان في سوريا ولبنان، وأن النأي بالنفس عنهما، يبدو أمراً محمودا.
لا ندري إلى حد، يمكن أخذ هذه التحولات في المواقف و”التسريبات” المعلنة على محمل الجد، أو التعامل معها بوصفها تعبيراً عن تغيير حقيقي في السياسة الأمريكية حيال سوريا … لكن تزامن صدور هذه المواقف، مع عودة واشنطن للتلويح بخيار الحرب على إيران، سواء كان جدياً أم استعراضياً، يعطي الانطباع بأن “شيئاً ما” يحصل في كواليس صنع القرار في واشنطن، ما دفع ببعض المعلقين المحسوبين على أحد المحاور الحليفة لواشنطن في المنطقة للتبشير بـ “صحوة أمريكية” جديدة.
وثمة احتمالٌ ثانً لا زلنا نرجحه، وهو أن ما يجري على الأرض وفي فضاء التصريحات والمواقف و”التسريبات”، إنما هو امتداد لما يجري في “جنيف 2”، هو التفاوض بالنار والتهديد والتلويح بمختلف أوراق القوة، سيما وأن الوفد الحكومي أظهر استعلائية وتشدداً في مونترو وجنيف، لا تسمح بالاعتقاد بأنه مقبل على تقديم تنازلات جوهرية، مستنداً إلى ما أنجزه من تحولات على الأرض، وإلى صلابة دعم حلفائه له، خصوصاً إيران التي لا بد أنها ستنحو لتشدد أكبر، وهي ترى نفسها مستبعدة من حول مائدة جنيف، وترى محاورها في “جنيف النووي” يعود للغة التهديد والوعيد.
في المقابل، بدا الوفد الممثل لبعض المعارضة وبعض الائتلاف، ضعيفاً جداً، لا يملك من أمر قراره شيئاً، ولا يحظى بثقل على الأرض يؤهله لتقديم الوعود وقطع التعهدات والوفاء بها … هنا، يبدو التصعيد الأمريكي – الفرنسي – التركي –السعودي – القطري، ضرورياً لغايات ملء فراغ المعارضة والتغطية على “تلعثم” وفدها، فضلاً عن “تعويض” الخسائر التي منيت بها “المعارضة المعتدلة” على الأرض، ما أفقدها القدرة على انتزاع أي مكسب من بين يدي وفد النظام.
هل هو تغير في مضمون الخطاب وأهداف السياسة وأدوات التحرك الأمريكي حيال الأزمة السورية، أم أن هذا التغيير يقتصر على اللهجة والنبرة، وأنه ضربٌ من التهويل السياسي الذي يراد لأصدائه أن تتردد في قاعات فندق الانتركونتننتال في جنيف؟ … هل هو انقلاب في الموقف الأمريكي، واستتباعاً مواقف حلفائها الكبار والصغار، أم هو تكتيك تفاوضي لا أكثر ولا أقل؟
لدينا من الأسباب ما يجعلنا نميل في تحليلنا إلى ترجيح الاحتمال الأخير، فواشنطن التي لم تفتح خزائن أسلحتها للمعارضة وهي في أوج تقدمها، يصعب أن تفتحها اليوم، وهي الأكثر إدراكاً وتخوفاً من خطورة انتقالها إلى “الأيدي الخطأ” … وواشنطن المقبلة على انسحاب من أفغانستان يجعلها في أمس الحاجة لتعاون إيراني، يصعب عليها التفكير في ضرب إيران أو المس بحلفائها، في هذه اللحظة الحرجة للانتشار وإعادة الانتشار الممهد للانسحاب من أفغانستان …. وواشنطن التي لم تشن حرباً على سوريا في “عز كيماوي الغوطة”، يصعب أن تفعلها اليوم، بعد “جنيف الكيماوي” الذي لم يترجم بعد … وواشنطن التي حددت أولوياتها استراتيجياً في المنطقة، ووضعت سوريا في خامس أو سادس منزلة، يصعب عليها أن تستدير استدارة كاملة في غضون أيام وساعات، فإدارتها كحاملة طائرتها، تحتاج لوقت ومساحة وجهد، لكي تحدث مثل هذه الاستدارات، والأهم، فإنها تحتاج لمبررات قوية للقيام بذلك.
أغلب الظن، أن ما يجري من عرض للعضلات وتراشق بالتهديدات، هو جزء من قواعد التفاوض السياسي والدبلوماسي، وقد لا يظل الأمر عند حدوده اللفظية، فنشهد مواجهات ميدانية دامية، لكن شتان بين سيناريوهين: الأول، أن تكون فيه الحرب (التصعيد والتهويل والاشتباك) جزءا من السياسة وأداة من أدواتها، والثاني، أن تكون السياسة والدبلوماسية، توطئة للحرب وتمهيد لها … وأحسب أن ما نشهد اليوم من عراضات واستعراضات، إنما يندرج في سياق السيناريو الأول.