حين يغطي «دخان» الارجيلة على نقاشاتنا العامة
بجرّة قرار، اعتقد انه مقصود، يتحول نقاشنا العام، في الاعلام والبرلمان والشارع الى “الارجيلة” وكأن المطلوب ان يغطي “دخانها” الكثيف على ما لدينا من اولويات وازمات.. وتحديات ايضا.
لا يمكن لأي عاقل ان يجادل –بالطبع- في اضرار تدخين “الارجيلة” او السجائر، لا من جهة الاضرار الصحية للافراد او الاضرار المادية التي تتحملها الدولة لعلاج المصابين بأمراض “التدخين” ولا يمكن –ايضا- ان نغضّ الطرف عن الخسائر التي سيتحملها “المستثمرون” في هذا المجال والعاملون فيه، خاصة وان قرار المنع جاء مفاجئا بعد ان صمتت الحكومات المتعاقبة على فتح “الاف” المقاهي وترخيصها كما انها تعجز الان عن طرح البديل لتوظيف “المطرودين” منها واغلبهم من الشباب.
القضية ليست هنا، وانما لها اكثر من مكان يمكن التوجه اليه واكتشاف ما فيه من “الغاز” وانا استأذن القارىء الكريم سواء من كان مع القرار او ضده، الى مرافقتي لزيارة بعضها والتدقيق في تفاصيلها، اول هذه الامكنة هو “ثقة” الناس بالقرارات الرسمية، ذلك ان الذين احتجوا على “منع” الارجيلة لم يحتجوا لأنهم لا يدركون اضرارها على المجتمع والدولة ايضا، ولكنهم فعلوا ذلك لقلة ثقتهم في حرص المسؤولين على “صحتهم” او الانطباعات ترسخت لديهم بان المقصود هو “المزيد” من الجباية، او ربما “استفزاز” الناس وقطع ارزاقهم، ولو افترضنا جدلا بان لدى الناس ما يلزم من ثقة وقناعة بان مقاصد القرارات هي “المصلحة” العامة وبان كل ما يصدر عن سلطة القرار منسجم تماما مع هذه الغاية وفي جميع المجالات لما تجرأ احد على “الاعتراض” ولكان القرار موضع ترحيب واحتفاء او على الاقل لكان مقبولا وان تسبب ببعض الخسائر لفئات ما تعمل في هذا المجال.
المكان الثاني الذي يمكن الاشارة اليه هو “ترتيب” الاولويات ومع انني ادرك تماما ان “صحة” المواطن اولوية لكنها ليست معزولة تماما عن مجال اوسع عنوانه “الصحة” العامة وهو لا يتعلق فقط بمخاطر “التدخين” وتكاليفه وانما يمتد الى الخدمة في المستشفيات وسلامة الدواء والغذاء والصحة والنفسية بل ويمتد الى ما هو اوسع من ذلك، حيث “الصحة” الاجتماعية التي تتعلق بقيم المجتمع، وهنا يبرز سؤال ايهما اولى: منع الارجيلة في المقاهي ام منع “الفجور” في الملاهي، وايهما اولى الصحة الجسدية ام الصحة “القيمية”، ولا اتحدث هنا عن الموقف الديني والاخلاقي فقط وانما عن “الاستثمار” في هذه المجالات وعن العوائد المادية –ايضا- ذلك ان الاستثمار في قيمة “النظافة” سواء في الشوارع او في “سلوك” الافراد سيريحنا من دفع مئات الملايين من الدنانير التي تنفق على تنظيف الشوارع او التي “تنهب” من قبل الفاسدين او الاخرى التي تدفقعها لمواجهة آفات “الفجور” والادمان وغيرها.
انني اعتقد هنا ان قناعة الناس بأن “اولوياتنا” تبدو معكوسة او غير منضبطة بالشكل الصحيح، وخاصة اذا توسعنا اكثر في رؤية قضايا ومشاكلنا “الفقر، والبطالة، سوء الخدمات التعليمية… الخ” هو الدافع الاساسي الذي غذى لدى الناس قابلية الشك والرفض لمثل هذه القرارات ورسخ لديهم شعورا متراكما بان المقصود منه ليس المعلن، وانما “المسكوت” عنه.
يبقى مكان ثالث يمكن ان نذهب اليه وهو يتعلق “بفن” اشغال الناس بقضايا ما في اوقات للتغطية على قضايا اخرى اهم واعتقد ان “دخان” الارجيلة هنا يمكن ان يوظف لتحويل نقاشاتنا العامة حول “الاولويات” الاهم الى اولويات اقل اهمية وهذه بالطبع مهارة سياسية تسجل عن لمن اختار اصدار القرار في مثل هذا التوقيت لكن المشكلة هي “قابلية” مجتمعنا لابتلاع “الطعم” والمبالغة في الاستغراق فيه وعدم الخروج منه وفي اغلب الاحيان فانه يتم التراجع عن مثل هذه القرارات بعد ان تستنفذ اغراضها، ويصبح الجدل حولها لا فائدة منه.
اذا سألتني عن رأيي في منع الارجيلة سأقول لك على الفور بأنني مع قرار المنع بالتدرج ولكن بشرط واحد وهو ان يأتي ضمن حزمة اجراءات تتعلق “بالصحة” العامة للمجتمع الصحية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والاعلامية، وان يجري ترتيب هذه الاولويات بحيث نقتنع بان الهدف هو “اصلاح” المجتمع ماديا واخلاقيا وليس محاصرة الاماكن التي يتنفس فيها ويهرب اليها دون حل المشكلات التي دفعته لذلك.