أوهام الكثرة العمياء!
القول الشائع بأن الكثرة تغلب القلة يعبر عن ثقافة سطحية لا ترى من أي مشهد انساني غير ما يطفو عليه، وقد يصح هذا القول بالمعنى العضوي أو العضلي، لكنه لا يصمد أمام مقياس آخر له صلة بالعقل والخبرة والذكاء.. وحين نتذكر كم هم عدد البشر الذين كانت الجزر البريطانية تحكمهم وتتحكم حتى بشهيقهم وزفيرهم في العالم نصاب بالدهشة، ولا نجد ما نقول غير تلك العبارة الآسيوية المفعمة بالحكمة لغاندي الذي قال لو أن مستعمرات الامبراطورية البريطانية من السلاحف أو حتى النمل لاستطاعت ان تجر الجزر البريطانية من مكانها!
وللمثال ايضاً نذكر ان بلجيكا التي استعمرت الكونغو لم تكن تساوي أكثر من واحد ونصف بالمئة من مستعمراتها، ولو عدنا الى الطبيعة عملنا بنصيحة شكسبير الذي قال أنها المعلم الأول للانسان لرأينا كيف يلوذ قطيع بالفرار أمام نمر أو فهد تاركاً وراءه أشلاء الأبناء وربما الآباء والأمهات معا!
لهذا فالرهان على الكثرة يبقى في نطاق الكم والقوة البدنية فقط، ومن عولوا على العدد وحده دفعوا الثمن حتى بمقياس ثقافتنا العربية التي جعلت من رجل واحد في بعض الأحيان يساوي الف رجل.
ولدينا في موروثنا الأدبي والشعبي العديد من الامثال والمواعظ التي تفرق بين الكثرة الهشة والقلة المتماسكة، وما قال الشاعر العربي:
اني لافتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى احداً
هذا القول يختصر المسألة كلها، لكن اللحظة الفارقة التي تجعل من الكثرة مجرد ركام من الأصفار هي حين تكون هذه الكثرة مصابة بالعمى، لانها عندئذ اما ان تعقد صفقة مقايضة مع المقعد الذي يجلس على الاكتاف كي يرى لها بدلاً منها أو تسقط في أقرب هاوية، والعمى الذي أعنيه ليس عضوياً أيضاً، فقد يكون البصر حاداً أكثر من بصر زرقاء اليمامة، لكن البصيرة عمياء وتتعدد أنماط هذا العمى ودرجاته، فهو أحياناً ايديولوجي يسجن ضحيته في شرنقة، وهو أحياناً سياسي أو ثقافي بحيث يحرم ضحاياه العميان من رؤية أول الطريق أو يورطهم بمنتصف المسافة بحيث لا يدرون ما اذا كانوا رائحين أو غادين!
يذكر كاسترو في الحوار الذي أجراه معه سارتر في ستينات القرن الماضي ان عدد الرجال والنساء الذين انجزوا الثورة في بداياتها كان لا يزيد عن ثمانين رجلا وامرأة، وكان أمامهم اعداد غفيرة من أنصار باتستا الذي خلعوه من الجذور!
ومن العيوب التي يمكن تشخيصها في ثقافتنا السائدة هذا الخلل الناجم عن تغليب الكم على الكيف، بدءاً من زهو الآباء بعدد الأبناء حتى لو كانوا أصفاراً ما ان تضرب بأي رقم حتى تحوله الى صفر.
وما تحتاج اليه هذه الثقافة العوراء هو الانتقال من سؤال الكم الى سؤال النوع خصوصاً في بلدان ما تزال زراعية وفيها ارض يساوي الدونم منها مليون دينار مقابل أرض لا يساوي فيها الدونم اكثر من رسوم التطويب!