أبـنـاؤنـا يتـعـلـمــون منــا
“الادانات” التي تسابقنا –جميعا- لإطلاقها ضد ابنائنا الطلبة الذين تجاوزوا “بالغش” في امتحان التوجيهي مفهومة ومشروعة، لكنها على قساوتها اختزلت المشكلة في هؤلاء الصغار الذين تصورنا للحظة انهم مجرد “نبات” شيطاني خرج هكذا فجأة من ارض لا نعرفها، او كأنهم “ايتام” لا آباء لهم، والمؤسف اننا –ايضا- تبرأنا منهم، واندفعوا الى “شيطنتهم” فيما حرص اشدنا –رأفة- على تلقينهم دروسا في الاخلاق والامتثال للقيم السامية .. هذه التي “نزعم” بأننا نلتزم بها، ويفترض بهم ان يتعلموها منا.
لقد اخطأ ابناؤنا حقا لكن هذا الخطأ لا يتعلق بهم فقط، وانما بنا نحن كآباء وأسر ومجتمع ودولة، لا اتحدث هنا فقط عن “الاهالي” الذين احتشدوا امام القاعات لتمرير الاجابات الى ابنائهم، ولا أولئك الذين اشتروا لهم “ادوات الغش” وشجعوهم عليه، كما انني لا اتحدث عن “الارضية” التربوية التي “سوّغت” للابناء الجرأة على الغش وزينته في عيونهم وجعلته “حلالا” ومباحا… لا بل وشطارة مطلوبة ايضا، كما لا اتحدث عن المجتمع الذي ظل “يتفرض” على امتداد السنوات الماضية على “شبكات” تجار الغش “وميليشياته” ويتستر عليها، ولا عن المسؤولين الذين اغمضوا عيونهم على الكارثة وهي تتراكم وتنتزع شرعيتها… وانما اتحدث فقط عن مجالات “الغش” التي تمددت في مجتمعنا واصبحت سمة عامة له وبالتالي “سممت” هذا المجتمع وجعلت من “الغش” عنوانا ملهما لشبابنا وابنائنا يلهمهم للوصول الى احلامهم ويلهمهم لتجاوز “الابواب” المسدودة امامهم ويلهمهم لانتزاع حقوقهم التي انتقصت بسبب غياب العدالة وانتشار المحسوبية وارتباك الانظمة والتعليمات.
مجالات الغش لا تنحصر –فقط- في امتحان التوجيهي، وشبكات الغش ومليليشياته لا تتعلق فقط “بالطلبة” الصغار وانما تتجاوزهم الى المجال العام لمجتمعنا والى اخرين فاعلين في هذا المجال، ولو دققنا النظر في صورة الغش التي تزودنا بها محطاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاخرى التي تزودنا “بالاسماء” والمشاهير في هذه المحطات فاننا سنصاب بالصدمة وسنكتشف –حقا- بان هؤلاء الصغار تعلموا منا ما فعلوه، واستلهموا منا “فنون” هذه التجربة وحذوا حذونا تماما حين قاموا “بفعلتهم” الشنيعة.
لا يمكن –بالطبع- التهوين من “الخطأ” الذي ارتكبه بعض “الطلبة”ولا يمكن للمسؤولين في وزارة التربية ان ينتظروا “اصلاح اخلاقيات المجتمع” لكي يبدأوا بمواجهة هذه الظاهرة فهم فعلا قاموا بواجبهم ومن واجبنا ان نشجعهم ونقف معهم، لكن في المقابل يفترض ان نعترف “كآباء” وكمجتمع بأننا علّمنا ابناءنا –بقصد او بدون قصد” اان يركبوا “طابق” الغش وان يتقمصوا الدور الذي صدرنا اليهم نماذجه، سواء من خلال “المعلم” الذي تتلمذوا عليه او المنهاج الذي درسوه او التاجر الذي تعاملوا معه او “السياسي” الذي تابعوا جولاته وصولاته، او البرلماني الذي غشهم بوعوده، او “الاعلامي” الذي اكتشفوا بانه “يغشهم” في مواقفه… او غيرهم من “النماذج” المتهمة التي قدمت لهم “الغش” كوجبة مقبولة اجتماعيا، وكقيمة “محترمة” للتذاكي على المجتمع وكحل “لمشكلة” عجزت عن حلها التشريعات والمقررات التي يفترض ان تكون عادلة ونزيهة ومفتوحة امام الجميع.
باختصار، بدل ان نلوم ابناءنا الذين “تلوثت” ايديهم بالغش في الامتحان يجب ان نلوم ايضا انفسنا لأننا “تورطنا” مثلهم تماما في مستنقعات “الخطأ” والغش، لا على صعيد السياسة ما يمارسها المحسوبون عليها وانما ايضا على صعيد “تديننا” الذي اصبح مغشوشا احيانا، وعلى صعيد تربيتنا وتقاليدنا واخلاقياتنا العامة.. وغيرها من المجالات التي افتقدنا فيها ما يلزمنا من نماذج صحيحة للامانة والنظافة والصدق والاعتماد على النفس والثقة والالتزام.. وقبل ذلك الايمان.