قراءة الحروف … وقراءة الواقع!
هل فاجأتنا حقاً تصريحات وزير التربية والتعليم (د. الذنيبات) حول “الأمية” الأبجدية التي يتمتع بها نحو (100) الف طالب ممن يدرسون في الصفوف الثلاثة الاولى (يشكلون 22% من اجمالي عدد الطلاب)؟!
ربما، لكن علينا أن نتذكر أن هذه “المعلومة” – إن صحت – ظل مسكوتاً عنها من قبل وزراء كثيرين سبقوا الذنيبات الى هذا الموقع، سواء بسبب تعقيدهم في اكتشافها، او بدافع “التغطية” عليها تحت ذريعة الحفاظ على “سمعة التعليم” أو خوفا من ردود فعل المجتمع وصدمته، كما أن علينا أن نتذكر – في الجانب الآخر – أن عددا من المسؤولين السابقين فاجأونا بمثل هذه الصدمات.
وزير الصحة – مثلا – الذي حذرنا من “فساد” الماء والغذاء (رحمة الله عليه)، والدكتور البخيت الذي نعى التعليم العالي، وبعض وزراء الاقتصاد الذين صرّحوا بأن اقتصادنا في “غرفة الانعاش”، رئيس وزراء سابق حين وصف الإعلام بأنه “مرعوب”..الخ، لكن رغم صدى تلك “القنابل” في الإعلام و المجتمع ايضا، لم يتحرك أحد الى انقاذ الموقف، وبالتالي “نامت” القضية، واستبسل مسؤولون لاحقون بـ “تزيين” الواقع والتغني بإنجازاتهم، لنكتشف بعد ذلك أننا نسير في اهم “مجالاتنا” الاساسية الى الوراء بدل ان نتقدم إلى الأمام.
إذن دعونا نتصارح: هل المشكلة التي نعاني منها فقط هي “أمية” نحو 22% من ابنائنا في الصفوف الاولى الثلاثة، أم أنها مشكلة “التعليم” في بلادنا، سواء في المدارس أو الجامعات، وهي – هنا – لا تتعلق بالأمية وانحدار المستوى التعليمي، بل بـ”الفساد” التعليمي الذي حوّل رسالة التعليم الى تجارة ووظيفة وتحصيل مغشوش وشهادات مزورة وأبحاث “عقيمة” وحوّل “قيم التعليم” الى سوق للشطارة والغش والتسابق على “الموازي” والتعيين على مسطرة الواسطة والمحسوبية، وبالتالي أصبحنا أمس مشهدا تعليميا بائسا بكل ما يحفل به من تفاصيل، ولو كنا حريصين على “الاعتبار” والتصحيح لما فاتنا ما حصل منذ سنوات في “امتحان التوجيهي” حين فقد هيبته، وانكشفت الأخطاء فيه، ووصل الأمر بنا الى “احالة” مهمة توزيع اوراقه على “ديوان المحاسبة” وكأن كوادر وزارة التربية خلت تماماً من “المؤهلين” لإتمام هذه الوظيفة، فاتنا أن نتحرك آنذاك “لقرع” الجرس ومعالجة الخلل، فتراكمت الأخطاء حتى وصلنا الى هذه النتيجة.
إذا كان ما حصل في “بنية” التعليم قد فاجأنا، فماذا عن “بنية” الادارة العامة التي اكتشفنا في ثلاثية “الثلج” الأخيرة انها تعطلت تماماً وفقدت قدرتها عن مواجهة ازمة بسيطة؟!
وماذا عن “بنية” الصحة والطبابة التي يحذرنا اصحاب “صنعتها” من هروب المختصين فيها الى الخارج، وتراجع أدائها العام وازدياد اخطائها في غياب قانون لـ”المساءلة” الطبية وانتشار “التجارة” في مرافقها؟!
ثم ماذا عن “بنية” الإعلام الذي يواجه اليوم خيار “الانزواء” وشبح “النهاية” ولا اتحدث هنا فقط عن الصحف الورقية التي اشهرت ازماتها المالية على “الملأ” بل عن مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الرسمية التي تواجه خطر “الاختفاء” من الفضاء إذا لم تسعفها الدولة بتغيير “اجهزتها” لتتمكن من مواكبة ضرورات التكنولوجيا؟!
ثم ماذا ايضا عن “بنية” الأخلاق العامة، سواء أخلاقيات الوظيفة أو أخلاقيات السوق أو اخلاقيات المواطن التي تراجعت وتعرضت لأسوأ التحولات؟!
لا أدري كيف “سكتنا” على هذا “الخراب” التي تغلغل داخل مؤسساتنا ومجتمعنا وبلدنا، وكيف “اغمضنا” عيوننا على “المرض” الذي نهش اجسادنا واكتفينا بابتلاع وصفات “التسكين” التي كنا نعرف أنها قد تهدئ آلامنا، ولكنها لا تشفي عللنا وامراضنا؟!
هل الحق على المسؤولين الذين وجدوا أن “المشكلة” اكبر من أن يواجهونها في مواقعهم التي جاءوا اليها فجأة وخرجوا منها فجأة دون أن يفسح لهم المجال الكافي لترتيب “اولوياتهم” ومعالجة ما وجدوا من اخطاء؟!
أم الحق على المجتمع – بمؤسساته ونخبه – حين تواطأ مع “الواقع” وظل صامتاً عليه ثم ابتلع الصدمات وكأنها قدر من السماء؟!.. لا أدري – اي والله – كيف سنواجه اجيالنا القادمة حين يسألون عما فعلناه بهم من جنايات.. وعما ورّثناه لهم من “مصائب” وخيبات.
كل ما استطيع ان أدعو اليه هو ان “نستيقظ” امام هول هذه النوازل التي حلت بمجتمعنا، وأن نتواضع كثيراً في حدّة مكابرتنا وعنادنا ومناكفاتنا “السياسة”، فما يحدث يحتاج من “الجماعة الوطنية” بكل أطيافها والوانها الى طيّ صفحة “الصراع” على السياسة والمكاسب و”التوافق” على حوار وطني حقيقي، يشارك فيه الجميع للخروج بمشروع وطني حقيقي يتعهد فيه أهل الاختصاص في كل مجال بوضع ما يلزمنا من برامج للخروج من حالة “التيه” واصلاح “البُنى” التي تهدمت واعادة “السكة” الى مسارها الطبيعي.
إذا لم نسارع الى فعل ذلك، فأرجو ألا يقول لنا أحد إنه تفاجأ بما هو اسوأ مما فجّره وزير التربية.. أو غيره من المسؤولين الذين “صدمتهم” الوقائع، فما عادوا قادرين على السكوت عنها، ولا التغطية عليها ايضاً، لكن المشكلة ليست فقط في أبنائنا الـ (100) الف الذين لا يجيدون قراءة الحروف الأبجدية، بل فينا نحن الذين لا نجيد قراءة هذا الواقع.. ولا نريد ان نعالجه ونتجاوزه.