عندما يصبح الابن أباً!!
العصامية قيمة اخلاقية ومنجز حضاري، والمرء الذي يحقق ذاته بذاته ودونما اتكاء على أي مرتكز آخر يستحق التقدير لأنه لم يستسلم للشروط التي حاصرته منذ الولادة، لكن هذا كله لا يلغي حقيقة اخرى، عبر عنها أسلافنا في كل أوان بفضل الخبرة وتكرار التجارب، وهي ان الابن أحياناً يكون سرّ أبيه، وهذا ما قاله على نحو غير مباشر شاعر انجليزي هو وليم وورذورث، قال ان الابن أب أيضاً وهناك أبناء يعيدون انتاج آبائهم سلباً أو ايجاباً.
ولو كتبت في هذه المسألة في صباي لكانت المقاربة مختلفة جذرياً بسبب قلة الخبرة والقابلية للخداع والغواية، لكن بعد ان أصبح المرء جداً وليس أباً فقط تغير المشهد، وأصبح لدي اعتقاد راسخ بأن العصاميين ندرة، لهذا يشار اليهم وتضرب بهم الامثال، واذا صدق القول بأن من شبّ على شيء شاب عليه فان كثيرا من الابناء بهم طبعة اخرى قد تكون منقحة أو مزيدة للآباء. فمن كان يسمع أباه في طفولته يقول له بأن يكذب على من يطرق باب البيت أو يتصل بالهاتف: إنه غير موجود في المنزل، لا يجد غرابة في تكرار الموقف ذاته عندما يصبح اباً.
ومن كانت أمه تربت على كتفه وقد تقبله اذا سرق شيئاً من المدرسة أو من أحد زملائه لن يجد غضاضة في سرقة بنك أو السطو على ممتلكات الآخرين، لأنه رضع هذا الحليب الأسود منذ طفولته.
اعرف رجلاً حقق ذاته وظفر بمكانة عملية واجتماعية، يحتكم في المواقف الصعبة التي تمر به الى جده الذي رحل منذ اكثر من نصف قرن، وحين سألته عن السبب قال لي أن جدّه علمه الصدق حتى لو انتهى به للعقاب وعلمه أن الجبن لا يطيل العمر، وأن من لا يفكر بجاره الجائع وينام متخماً هو «بهيمة» وليس انساناً.
ومن أعادوا انتاج آبائهم عندما أصبحوا بالغين يدفعون ثمن كل المواقف الاخلاقية لأن الآخرين ممن تربوا في اكاديميات الكذب والممالأة والنفاق ولعق الاحذية لا يصدقونهم، فالسارق يظن ان الناس كلهم لصوص وكذلك القاتل والقواد والتابع!
العصاميون يستحقون الانحناء اذا أصبحوا آباء لانفسهم وأجداداً لابنائهم، وهم غالباً ما لا يكذبون، فلا يخترعون حكايات عن طفولة مترفة ولا يخجلون من فقرهم، بل يمتطونه كحصان ويقفزون به الحواجز بعكس آخرين يلفقون حكايات عن ماضيهم وعن ذويهم، ولو استطاعوا تغيير اسمائهم لفعلوا! ومنهم من فعل بلا تردد اذا استطاع الى ذلك سبيلاً.
اعرف ان الانسان لا ذنب له في أي شرط حاصره بالولادة، فهو لا يختار لونه أو أباه وأمه أو حتى اسمه، لكن السؤال الوجودي الحاسم الذي سبقنا اليه الفيلسوف سارتر هو ما الذي سوف تفعله بشرط ولادتك، ان كنت اسود اللون أو فقيراً أو حتى أعمى؟
بعض السود يصبحون مانديلا وجيمس بولدوين ولوثر كنج، وبعضهم يصبحون مايكل جاكسون الذي اجرى جراحة لاستئصال لون جلده، وكذلك الفقراء، فمنهم من يحول فقره الى رافعة ويحاول انقاذ فقراء العالم ومنهم من يخضع لشروطه ويصاب بشلل في النخاع الشوكي أمام الاثرياء كما يصاب الفأر اذا رأى قطاً!