الشيخ نوح!
مرت قبل أيام قليلة ذكرى وفاة الشيخ نوح سلمان القضاة، وهم من هو في مكانته عالما وإنسانا ومسؤولا.
عرفت الشيخ نوح -رحمه الله رحمة واسعة- أول مرة وعن قرب في طهران ، حينما كان سفيرا للمملكة في إيران ، حيث كان عميدا للسفراء العرب والمسلمين ، وكان يجمعهم في كراج أحد المباني ويؤمهم في صلاة الجمعة وفق المذهب السني، وقد شكا لي أيامها أن هذا الأمر لم يكن يعجب المسؤولين الإيرانيين، ورغم الاختلافات العميقة بين المملكة وإيران، إلا أنه كان يحظى باحترامهم الجم، وتقديرهم الكبير، كانت تجمعه علاقة حميمة بغسان بن جدو حين كان مراسلا للجزيرة هناك وأسامة حمدان ممثل حماس ، فكنت كلما أزور طهران ألتقي الثلاثة معا ، وعبرهما عرفت من وما هي إيران، كانت للشيخ مكانة خاصة لدى المسؤولين في إيران ، فلطالما دخل معهم في سجالات مذهبية وفقهية وسياسية، حسبما روى لي، وكان دائما يجد طريقة لإبقاء الخلاف في جوه الأخوي ، وعلى العكس من الدبلوماسيين الأجانب في إيران ، حظي الشيخ بمعاملة خاصة ، حيث كان يُمنع على أي دبلوماسي التحرك خارج طهران إلا بإذن خاص ، إلا الشيخ نوح القضاة بسبب الاحترام الكبير والثقة التي حظي بها ، حيث كان يتحرك ويزور الحوزات العلمية ويدخل في حوارات مع مشايخها ، وفي ظني لو توافر للأمة عدد كاف ممن يسيرون على نهج الشيخ نوح لتم طي جزء كبير من الخلاف المذهبي بين السنة والشيعة ، وقد استمرت العلاقة الخاصة التي تربطني بالشيخ بعد أن أنهى عمله في طهران ، وعاد لاستلام منصب المفتي العام ، فكنت على اتصال دائم معه ، أزوره كلما ادلهم الخطب ، وبدأت معه تسجيل حلقات خاصة بإذاعة حياة إف أم ، إلا أنه بعد الحلقة الأولى اعتذر مني ، وطوينا صفحة البرنامج المقترح ، واحترمت رغبته في ذلك، حيث بدا لي أن البرنامج برمته لم يرق له، لأسباب كثيرة، خاصة بعد تسجيل الحلقة الأولى!
الشيخ نوح سلمان القضاة ، شخصية فريدة لم أجد لها مثيلا بين المسؤولين الكبار ، ففي كل مكان جلس فيه ترك ريحا طيبا ، وتقاليد أصيلة في العمل ، الشيخ نوح قبل أن يغادر كرسي المفتي العام للمملكة «اجترح» فعلا في هذه الظروف الاقتصادية العصيبة ما يستحق أن يُكتب بأحرف من نور ، فقد أعاد سماحته الهدايا التي كان يتلقاها خلال عمله في دائرة الإفتاء الى الدائرة بعد أن قام موظفون في الإفتاء بارسالها له إلى البيت اعتقادا منهم انه نسيها في مكتبه قبل أن يغادره ولكنه عاد وارسلها مجددا الى الدائرة.
ومن بين هذه الهدايا ساعة وبعض الهدايا الرمزية اضافة الى مجموعة من الكتب. إلى ذلك ، يقول من عمل مع الشيخ أن موظفي الدائرة اعتادوا على مفتي المملكة وهو يوزع عليهم الهدايا التي كان يتلقاها خلال عمله رافضا – بصمت وان كان لاحظه الموظفون – إدخالها بيته. ليس هذا فحسب ، بل نتذكر هنا عملا يشبه المعجزة ، حيث أعادت دائرة الإفتاء العام – ابان عهد سماحة القضاة – نصف مليون دينار إلى الخزينة كفائض من ميزانيتها!
يقول عنه أخي المفتي حسان ابو عرقوب: من كلامه (ينبغي أن يكون طالب العلم صاحب علم نظيف) فقلت له: كيف يكون علمه نظيفا؟ فقال: ( بأن لا يجيب إلا بعد رجوعه للمصادر المعتبرة). كان خفيف الظل، مع الهيبة التامة، فلا تكاد تجلس معه إلا تعرقت من هيبته، وابتسمت من نكتته. كان ناصحًا مشفقًا، لا يبخل بالنصح، بل يبادر به. علم أني أسافر دون زوجتي، فقال: (لا تسافر دونها، حتى لا تمل زوجتك وتستوحش. بل خذها معك أينما حللت وارتحلت). كنت آخذ معي عملي إلى البيت لتكملته، فيقول: (لا تأخذ معك شيئًا، فوقت العمل للعمل، ووقت البيت للبيت).
تحية للحبيب الشيخ نوح ، وجمعنا الله تعالى بك يوم لا ظل إلا ظله ، ورحمك الله رحمة واسعة ، فقد كان يشع منك مجال إيماني مريح كلما طالعت وجهك السمح ، ولا نزكيك على الله تعالى ، ولكنها شهادة نُسأل عنها يوم القيامة.