أردوغان.. عشرٌ سمان، يتبعنها عشـرٌ عجاف
لم يكن ينقص رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، سوى فضيحة الفساد من العيار الثقيل، وانشقاق حليفه الأكبر فتح الله غولن عنه، حتى يكتمل قوس الأزمات الداخلية والخارجية الذي بدأ يعصف بالرجل وحزبه، ويهدد واحدة من أكثر تجارب الإسلامي إثارة للجدل وجذباً الاهتمام.
من حيث التوقيت، فضائح “أبناء الوزراء وآبائهم” جاءت فيما البلاد تقف على عتبات مرحلة انتخابية حاسمة … أردوغان سيغادر الحكومة بعد أشهر معدودات، وحلمه بولاية رئاسية مدججة بالصلاحيات، يصطدم بدستور يصعب تعديله في مثل هذه الشروط … فيما خصوم “السلطان”، من المعارضة، ومن حلفائه وفي أوساط حزبه، باتوا يتحضرون للحظة سقوط الأسطورة، وتنحية الرجل عن بؤرة صنع القرار، بعد أن تربع في قلبها لأكثر من عشرية من السنين.
عشر سنوات سمان، نجح فيها أردوغان وحزبه في استنقاذ تركيا، ونقلها من ضفة إلى أخرى … الرجل نفسه قال، إن مفتاح نجاحه، تجلى في حربه الحازمة والمفتوحة على الفساد، فإذا بالفساد يتسلل إلى قلب حزبه وحكومته، وعلى أرفع مستوى … عشر سنوات سمان، قدم خلالها إسلاميو تركيا، خطاباً مدنياً – ديمقراطياً، أقرب ما يكون للعلمانية المحافظة، انتهى إلى خطاب ديني / بنكهة إخوانية، مصبوغ بصبغة مذهبية، عقّدت علاقات تركيا بجوارها العربي والإقليمي، وانتقلت آثاره السيئة إلى الداخل التركي، بيقظة “المسألة العلوية” قبل أن تجد “المسألة الكردية” طريقها للحل، وانتقال شرائح واسعة من علمانيي تركيا ومدنييها إلى خنادق “تكسيم” و”حديقة جيزي” لمواجهات مفتوحة مع الحزب “المُتحوّل”.
عشر سنوات، شهدت زواجاً كدنا نظنه “كاثوليكياً” بين أردوغان وصديقه النافذ فتح الله غولن، نعرف اليوم أنه جاء ثمرة صفقة تتوزع فيها الصلاحيات و”الغنائم” بين الحليفين: وكان القضاء والشرطة والإعلام على ما يبدو، من نصيب غولن، صاحب النفوذ الحاسم في الحقل التربوي والتعليمي، فإذا بهذا الزواج ينتهي إلى “حرب تصفيات” بين الرجلين، هذا ينقض على وزراء فاسدين وأنجالهم، وذاك يرد بحملة على مدارس غولن ورجاله في القضاء والشرطة، وقبل ذلك حرب أردوغان المفتوحة على الإعلام.
هو “ديالكتيك” العلاقة بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية … فما كان لأردوغان أن يواجه كل هذه التحديات الداخلية دفعة واحدة، وما كان خصومه وحلفاؤه ورفاقه ومناصروه أن يجرؤوا عليه في الداخل، لولا سلسلة الخيبات التي منيت بها سياسات الرجل والحزب في الخارج خلال الأعوام الثلاث الفائتة، وعلى كافة الجبهات تقريباً … فما فشل أردوغان في تحقيقه إقليمياً، بدأ يرتد على صورته ونفوذه داخلياً … والأرجح أن سنوات حكمه العشر السمان، ستتلوها سنوات عشر عجاف، إن قُدّر للرجل والحزب أنْ يظل على “عرش” تركيا حتى العام 2023، للاحتفال بالمئوية الأولي للجمهورية، كما يطمح الرجل وحزبه.
وفقاً لمختلف الاستطلاعات والتقديرات، فإن من السابق لأوانه إصدار بيان نعي للحزب والتجربة … بل أن هذه الاستطلاعات والتقديرات ترجح فوزه في الانتخابات القادمة في مواجهة معارضة ضعيفة، تحاصرها نزعات التطييف والتمذهب والأسلمة التي اجتاحت تركيا في السنوات الأخيرة … بيد أن المؤكد أن “العدالة والتنمية” لن يحظى بالأغلبية الكاسحة التي حصدها في آخر انتخابات، أما زعيمه ورمزه ومؤسسه، فقد بات عبئاً على حزبه وسياسة بلاده كما قلنا من قبل، وليس ذخراً لها، والتحدي الذي يجابه الحزب يتجلى في تجديد قيادته، وتخليصها من “الفردية” و”الزعاماتية” القاتلة لرئيس الحزب والحكومة، والعودة بالحزب وتركيا إلى خطاب التأسيس المدني الديمقراطي في الداخل، خطاب “صفر مشاكل” الذي تحول إلى “صفر أصدقاء” في الخارج.
نحن الذين شغفنا بالتجربة التركية في عشريتها الأولى، وسعينا في تعميمها بوصفها “تجربة” محمّلة بالدروس والعبر التي يمكن الاستفادة منها والبناء عليها … نتطلع لمراجعات وقراءات نقدية، يجريها الحزب لتجربته، الآن وليس بعد فوات الأوان، فانهيار تجربة الإسلام السياسي في تركيا، سوف تكون مؤشراً سلبياً بالنسبة لبقية حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، وهي نتيجة ينتظرها بفارغ الصبر، أصحاب خطاب “نهاية التاريخ” و”صدام الحضارات”، وفلول أنظمة الفساد والاستبداد والركود، ودعاة الحروب الأهلية غير المقدسة، المتدثرة بالكتب المقدسة والسلف الصالح والقراءات الشاذة لرسالة السماء السمحاء.