إحالة جائرة
نهاية كل وظيفة رسمية التقاعد، ولا أحد سيبقى مخلدا في موقعه إلى الأبد، غير أنك في حالات معينة تستغرب لماذا تتم إحالة بعض الأسماء إلى التقاعد في ظل ظروف معيّنة!.
قبل فترة أحال الأمن العام عميدا معروفا للتقاعد وهو العميد كريم الشوشان الذي كان مديرا لمكتب مديري الأمن العام لمدة اثني عشر عاما متواصلا، وإحالته تمت بطريقة غريبة جدا، إذ كان منتدبا للعمل في السفارة الأردنية في الرياض، كضابط ارتباط، وهو لم يكمل مدته بعد و مازال في منتصفها، فبوغت -من حيث لا موعد- بإنهاء مهمته، وإعادته الى منزله.
كيف يتم اتخاذ قرار بإحالته للتقاعد اعتبارا من نهاية هذا الشهر، وأولاده مازالوا في المدارس وبعضهم في الثانوية العامة، وكأن الإحالة هنا لم تتنبّه الى أن نجله بهذه الحالة ستضيع عليه سنة، ولن تقبله المدارس في الأردن، كونه طالب توجيهي جاء بعد فصل واحد؟!.
هذه إحالة جائرة للتقاعد، فالرجل أولا تعرّض الى اصابات بالغة بحادثة تفجير السفارة الأردنية في بغداد التي وقعت قبل سنوات، وأصيب بإصابات ليست سهلة، ولم يصب سواه، إذ لم يكن غيره في السفارة آنذاك، والرجل أيضا كان نموذجا للنزاهة ونظافة اليد، بل يتحدى كثيرون أن يأتي أحد بكلمة واحدة ضد سجله الشخصي والأخلاقي.
العميد الشوشان، كان معروفا خلال وجوده كمدير لمكتب مدير الأمن العام باتسامه بالانفتاح على كل مكونات البلد، وكان المكتب مفتوحا للناس في البوادي والقرى والمدن والمخيمات، فوق أدائه الحرفي والمهني، وغياب التكسب عن شخصه.
هذا فوق مساعدته لآلاف البشر بصمت عبر موقعه، و صلاحياته، حتى أن يد الأمن العام امتدت إلى الفقراء والمحتاجين والمساكين خلال وجوده في كل المملكة.
كما أشير مسبقا فإن الإحالة للتقاعد أمر عادي، وهذه نهاية كل وظيفة، لكننا نتحدث هنا عن نموذج خاص جدا، خدم البلد وجهاز الأمن العام، ودفع ثمنا من حياته ذات زمن، وهو هنا لا يريد ثمنا لخدمته ولا لحادثة بغداد، بل كل القصة تتعلق فقط بعدم العدالة.
ينطبق ذات النموذج على أسماء أخرى، تمت إحالتها على التقاعد في مؤسسات كثيرة دون ان نعرف السبب، ودون ان تكون ذات الإحالة منطقية، لا من حيث توقيتها، ولا نتائجها على الإنسان، الذي يراد له في حالات أن يتم ذبحه بهذه الطريقة، وكأن جزاء النزاهة والاستقامة والحرفية هذه الطريقة المؤلمة في الخروج.
هي طريقة لا تراعي سجل الشخص ولا واقعه، ولا حتى اضطراره كما في حالة «الشوشان» أن يذهب الى سفارة من اجل تغطية تعليم ابنائه، وغيره لا يضطر اصلا الى هكذا حال، بخاصة أن موقعه السابق في المديرية يتيح استثماره لو أراد.
أحيانا نشعر أن الحسابات الشخصية تلعب دورا في هذه الإحالات، وأحيانا نتحوصل حول قصة فلان محسوب على فلان، وفي حالات تتخذ هذه القرارات بقلب بارد لا يراعي حتى وضع الإنسان ولاحياته، وليس أدل على ذلك من التفريط برجل من مستوى استقامة وحرفية «الشوشان»، وقطع الطريق به في منتصف انتدابه وكأن المقصود عقابه وعقاب أفراد عائلته معه. فما الرسالة التي يتم إيصالها حتى للعاملين في الجهاز؟!.
لأجل هذه الأسباب، كثيرا ما نرى تفلتات وغضبات الذين خدموا الدولة، لأن الشعور بالظلم أمر صعب جدا، ولو سألنا كثرة من تلك التي خرجت عن طورها خلال السنين الماضية، لاكتشفنا أن لكل واحد قصة، تكمن خلف غضبه، اقل ذلك الشعور بعدم العدالة، وايضا الشعور بأن النظيف والمستقيم يدفع ثمن استقامته بدلا من العكس.
هذه إحالة جائرة نضعها بين يدي كبار المسؤولين ثم رئيس الحكومة وأصحاب القرار في البلد، وهي أيضا تفتح الباب للوقوف عند كل ملف الإحالات الجائرة للتقاعد التي نراها احيانا، ولو اجرينا اتصالا مع كثرة احيلت للتقاعد في غير توقيتها، ودون سبب مقنع، لاكتشفنا أن كثرة تم التعامل معها بطريقة سيئة، بخاصة أنه لا أحد يقف عند شكل الخروج وتوقيته ونتائجه، وهذه قسوة تسبب عداوات في كل جسم الدولة، بخاصة بين العاملين اذ يرون كيف يحال سابقوهم الى التقاعد بطريقة مباغتة.
لماذا يخلصون في أعمالهم، ما دامت نظرية «خيل الإنجليز» هي السائدة، وليتها سائدة بذات شروطها، بل يتم إعدام الخيل في عز قدرته هنا؟!.
لعل هناك من يقف ويعيد قراءة كل تلك القرارات التي تبدو فنية، غير أن باطنها غير فني، ويحمل أيضا ظلما عز نظيره للناس، ويزرع العداوة في قلوب الناس.