طرابلس أو «سوريا الصغيرة»
تبدو طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني، صورة مصغرة لمسرح الحرب المندلعة منذ أزيد من عامين، في سوريا وعليها … هي ساحة من ساحات الحرب الواحدة المندلعة في ثلاث دول: العراق، سوريا ولبنان … هنا حيث تقتتل الأطراف ذاتها، وتحت الرايات والشعارات ذاتها، وتكاد ترى ذات الوجوه والسحن، كما لو كنت تشاهد “تغطيّة” للمعارك في درعا أو حلب أو حمص أو الغوطتين.
في الظاهر، أن علويين في جبل محسن يقاتلون مسلمين من أهل السنة والجماعة في التبانة وغيرها من حواري المدينة الفقيرة والمهمشة … أما في الباطن، فإن نفس المحاور المشتبكة في الحرب السورية، تقتل على أرض طرابلس … حزب الله وحلفه الإقليمي والمحلي الممتد حتى طهران، يدعم جبل محسن، بأشكال متفاوتة… فيما 14 آذار وتيار المستقبل ومن خلفهما الحلف الإقليمي الداعم لهما ، يشكلون سندً قوياً لـ”أولياء الدم” وقادة المحاور والمجموعات والجماعات.
وإذ ترتفع وتيرة المواجهات الدامية في طرابلس أو تهبط، على إيقاع المعارك المحتدمة في سوريا، وخصوصاً على “قاطع القلمون”، فإن طرابلس تتحول يوماً إثر آخر، إلى “بارومتر” لقياس درجة الأزمة السورية، وهي بهذا المعنى مرشحة لمزيدٍ من الصولات والجولات الدامية في قادمات الأيام، في ضوء إصرار معسكري الحرب المفتوحة في سوريا، على إحراز تقدم “نوعي” قبل الدخول إلى غرف التفاوض في “جنيف 2”.
يجري ذلك في ظل حالة غير مسبوقة من الاستقطاب والشحن المذهبيين … لكأن هذه البقعة الصغيرة من شمال لبنان، يُراد لها أن تختزل حرب داحس والغبراء المذهبية، التي تكاد تشق الإقليم الممتد من الباكستان وأفغانستان، وصولاً لطرابلس وصعدة مروراً ببغداد وسوريا وبيروت وبعض أطراف الخليج.
ويجري ذلك أيضاً، في ظل عجزٍ بالغٍ ضفاف الشلل، يكاد يأتي على البقية الباقية من صورة الدولة وهيبتها وأجهزتها القضائية والأمنية والعسكرية والسياسية … وقد يصبح الأمر أكثر خطورة، إذا ما استطالت الأزمة السورية بأكثر من اللازم، وإذا ما استطال “الفراغ” المؤسساتي في لبنان، ليشمل رئاسة الجمهورية بعد “فراغ الحكومة” و”شلل البرلمان” وتوزع ولاءات الأجهزة الأمنية وانكشاف المؤسسة العسكرية.
وكما أن للحرب في سوريا أمراءها ورعاتها من تجار “حروب الوكالة”، فإن لحروب طرابلس الصغيرة، أمراءها الصغار وتجار “حروب الوكالة” كذلك … فمن يريد ضُرّاً بحزب الله، ما عليه إلا أن يدعم قادة المحاور والجماعات الذين لا يشبهون أحداً غير قادة “النصرة” و”داعش” … ومن أراد أن يؤمّن ظهر النظام السوري من شمال لبنان، عليه أن يدعم “قلعة الممانعة والمقاومة” في جبل محسن (؟!)، وثمة على ضفتي الخنادق وخطوط التماس، من لديه الخبرة و”العبقرية” لتحويل عذابات الناس ودمائهم، إلى أرصدة متراكمة في البنوك، ونفوذ لا يقدر في عالم السياسة.
حرب طرابلس كما حرب سوريا، تأكل من رصيد حزب الله، شارك فيها أم لم يشارك، قاتل فيها أم لم يقاتل … وهي تأكل أيضاً من رصيد الاعتدال السنّي وتسحب البساط من تحت أقدام تياراتهم المدنية والعلمانية الأكثر وسطية واعتدالاً … فطرابلس التي أوصلت ثلاثة مليارديرات لبنانيين إلى البرلمان والزعامة السياسية، هي ذاتها التي ستطردهم من عالم السياسة والتمثيل، لتأتي بوجوه لم تعرفها المدينة ولبنان من قبل، تماماً مثلما طردت “النصرة” و”داعش” في سوريا الائتلاف والمجلس العسكري وجورج صبرا والمنبر الديمقراطي وإعلان دمشق من عالم التمثيل والنفوذ وصنع القرار.
وكل يوم يمضي على جرح طرابلس النازف، تصبح فيه المدينة أقل تسامحاً وأكثر ميلاً لطرد “الآخر” وإقصائه … تصبح أكثر تأهيلاً للانخراط في مشروع “الدولة الإسلامية في العراق والشام” … وربما نجد غداً في المدينة من يعلن البيعة لأيمن الظواهري على السمع والطاعة مباشرة ومن دون وسطاء، مفضلاً أن تكون له “نصرته” الخاصة أو “داعشه المحلية”.
وأسوأ ما في جرح طرابلس أنه ينزف ويتعفن في ظل استمرار “حالة الإنكار” التي تهيمن على قياداتها وفعالياتها ومثقفيها، الذين أخذت العزة الكثيرين منهم بالإثم، وأعمت أبصارهم وبصائرهم، حسابات سياسية وفئوية ومذهبية وانتهازية ضيقة للغاية … تماماً مثلما حصل في سوريا، حين تنطح قادة معارضون، شيوعيين ويساريين ومسيحيين، لإنكار وجود القاعدة بين ظهراني المعارضة المسلحة في سوريا، بل انبروا للدفاع عن “النصرة” ضد القرار الأمريكي المتعسف بوضعها على قوائم الإرهاب السوداء، إلى أن انتهينا إلى تعددية سورية رفيعة المستوى وفريدة الطراز: داعش والنصرة وجيش الإسلام السلفي، وبقية ألوان الطيف السياسي الإسلاموي، في ظل غياب يشبه الموات، لبقية التيارات المدنية والعلمانية التقدمية.