ليست قصة انفلات أمني فقط
ينفجر النائب بسام المناصير في وجه السياسات الرسمية ويقول، إن البلد باتت «فالتة» بسبب سياسات الأمن الناعم،ووزير الداخلية يرد عليه بالقول، إن البلد ليس منفلتاً، وإن نواباً وصفوا كوادر الأمن العام بالكلاب المسعورة في وقت سابق، لتعاملهم مع حادثة معينة.
هذه شجاعة بأثر رجعي، لأن المقصود بالأمن الناعم، تطبيقه فقط، على الفعاليات السياسية، من مظاهرات ومسيرات،ولم يكن مقصوداً به، الجرائم والعنف، غير ان تداعيات الربيع العربي، جعلت القدرة على الفصل بين السياسي والجرمي، قدرة محدودة الى حد كبير.
لم تعد هناك مظاهرات ولامسيرات، اليوم، والدولة غير قادرة حتى الان على رد هيبتها، لأنها تورطت من جهة اخرى في معايير الأمن الناعم، وهي معايير مكلفة، تركت اثراً على البنى الاجتماعية، مثل الدواء الذي ينهي المرض، لكنه يترك آثاراً جانبية.
ترى الأمن والدرك يتفرجون على المشادات وإطلاق النار، ولا يتدخلون بين أي طرفين؛ لاعتبارات كثيرة..
ثم مالذي نطلبه من الفرد في الأمن، اذا كان مقتله أو جرحه، سيؤديان الى ان يدفع الثمن وحيداً، مع باقة ورد كريمة من مؤسسته؟.
هذا ملف لابد من معالجته جذرياً؛ لأن المواطن يتجاوز في مرات كثيرة، مثلما يتجاوز الفرد في الأمن والدرك في حالات، وهناك مظالم لمواطنين مشهرة، وبعضها بقي سراً، مثلما هناك اثمان دفعها العاملون في هذه الاجهزة، عند محاولتهم تطبيق القانون، والفرد في الأمن اذْ يرى زميله يدفع الثمن، وتتضررعائلته، يسأل نفسه سراً: هل هناك من يستحق ان اضحي لاجله، اذا كانت هذه هي المآلات؟!.
الامن الناعم؛ مفهوم ساعد كثيراً في استيعاب الجانب السياسي، حتى لايصير المفهوم متهماً في المطلق هذه الايام،ولولاه لتورطنا في مذابح ومواجهات دموية، وللاسف استنزفت مسيرات البلد، الأجهزة وقدراتها.
كنا نرى العسكري من الأمن والدرك، يتم شتمهما احياناً، فلا يردان بكلمة، بل ينزلان الى الميدان دون سلاح، ولولا هذه السياسة، لتم استدراج البلد الى مواجهة دموية على الطريقة المصرية، والفاتورة الارتدادية نراها اليوم.
الذي استفاد من هذه الحالة، اصحاب القضايا الجرمية، فالأمن والدرك، غرقا في ادارة الربيع العربي، وافرادهما منهكين، تحت وطأة المسيرات على مدى ثلاث سنوات، وعدد افرادهما لم يكن كافيا لادارة هذا المشهد السياسي، فوق اخذ الاجازات او الغياب عن البيوت.
ما قاله المناصير صحيح، من جهة التوقيت الحالي، لكنه معزول عن التوقيت السابق لذات المفهوم، وعلى هذا فإن كلامه صحيح، من جهة الفلتان الحالي، وغير صحيح، من تقييمه للمفهوم في المطلق، واهميته سابقاً.
اذا اردنا التخلي عن مفهوم الأمن الناعم، هذه الايام، لانتفاء الحاجة اليه، فعلينا اولا أن نأتي الى جهازي الأمن والدرك، ونزيد عدد كادرهما، ونرفع رواتب المنتسبين، ونحسن ظروفهم، ثم لانترك عائلاتهم ساعة يخسر المرء حياته، او تتم اصابته بتبادل اطلاق نيران، فذات الفرد يقف وسط المواجهة ليسأل نفسه عن جدوى التورط في مواجهة، تؤدي الى نكبة بيته الشخصي لاحقاً؟!.
ثم ليكفنا كثيرون نواباً واعياناً وشيوخ عشائر ووجهاء مخيمات، شر تدخلهم، عند كل حادثة تقع، من باب الواسطة ولبس العباءات الصينية المقلدة لاطلاق سراح فلان وتكفيل علان، والتداخل الاجتماعي، اضعف الأمن في الدولة.
لايمكن ايضاً اطلاق يد الأمن والدرك دون معايير؛ لأن هناك تجاوزات تحصل، وهذا يفرض شفافية، ورقابة جهات عديدة على اداء الأفراد والمؤسسات، حتى لايكون بديل الغياب، التغول على الناس، دون معايير.
البلد تحول الى مخزن سلاح، فوق المائة وسبعة عشر الف قطعة سلاح مرخصة، وما..من بيت في الأردن الا فيه رشاش او مسدس، والاعراس والاحتفالات، تتم بحضور افراد من اقارب المحتفين، ينتمون احيانا الى الامن والدرك،ويشاهدون اطلاق النار وكأننا في حرب، ولايحركون ساكنا؟!.
بعض الاحتفالات تجري بجانب «المغفر» في حي ما، ولايجرؤ أحد على التدخل، وفي حالات تغفر» القربى» للمخالفين وشظاياهم.
هذه قصة معقدة جداً، لأنها تدار تحت عناوين ثانوية من القرابة والنفوذ والواسطة، والقوي الذي يأكل الضعيف،فالقصة ليست مجرد نقد لمفهوم الامن الناعم او الخشن، بقدر كونها تؤشر على غياب العدالة التي يمثلها القانون،ويطبقها الأفراد المختصون على شعب يقبل العدالة باتجاهين، حين تكون لصالحه، وحين تكون ضده.