المصري وحسبة "الأصول والمنابت"!
من الطبيعي أن تثير مقابلة موقع “CNN العربية” مع رئيس مجلس الأعيان السابق طاهر المصري، هذا الحجم من ردود الفعل في الأوساط السياسية والمجتمعية في البلاد.
إلاّ أنّ المقابلة وجدت صدى غاضباً للغاية في الأوساط الرسمية العليا، وفتحت باباً واسعاً لـ”المتصيدين في الماء العكر”!
موضوع “الأصول والمنابت” الذي استولى على اهتمام النخب السياسية بالأمس، هو المدخل الخاطئ تماماً، بل ربما المعكوس لقراءة ما اعتبره الرجل “استبعاداً” له.
فلم يذكره المصري سوى في إشارة “غامضة” خاطفة، تمّ تضخيمها وتهويلها، مع أنّه لم يوضّحها، وقد يكون قصده من ذلك عكس ما فُهم تماماً.
بينما كان الجزء الكبير من المقابلة مكرّساً للحديث عن موقفه من الإصلاح السياسي والربيع العربي.
على النقيض من “التحليلات السطحية”، فإنّ موضوع الأصول والمنابت هو الذي “أطال” في عمر رئاسة المصري لمجلس الأعيان، بالرغم من عدم انسجام مواقفه وأفكاره مع مؤسسات القرار الأخرى، في أغلب الأحيان؛ فوزنه السياسي ورصيده الشعبي، على اعتبار خلفيته الاجتماعية، جعل من الصعوبة الشديدة على “دوائر القرار” تقديم بديل له مقنع وكفؤ، من الوسط الأردني-الفلسطيني.
وباءت محاولة سابقة (كما أشار هو) بالفشل؛ عندما دعم بعض مراكز القرار ترشيح د. محمد الحاج رئيساً لمجلس النواب، لكنّه لم ينجح. وشعر حينها المصري بأنّ خيطاً بدأ يلتف حول عنقه من قبل “خصومه” في دوائر القرار الأخرى للإطاحة به!
أيّاً كانت الرواية الرسمية لتغيير رئيس مجلس الأعيان، فمن الواضح أنّ العديد من الأوساط السياسية والشعبية، وحتى الدبلوماسية، لم تنظر إليه بوصفه تبديلاً طبيعياً؛ بل انعكاس لحالة عدم الارتياح لمواقف الرجل وتوجهاته الإصلاحية من قبل الطبقة السياسية المحافظة النافذة اليوم في دوائر القرار المختلفة!
المفارقة تبدو في أنّ المصري لا يقدّم نفسه معارضاً، ولا حتى المعارضة تعتبره كذلك؛ ولا سياسياً متمرداً، إذ بقي يعمل ضمن الإطار التقليدي للاختلاف في وجهات النظر، برغم أنّ “الدولة” تجاهلت ما قدّمه عبر لجنة الحوار الوطني. إذ حقق نجاحاً كبيراً، بجهود متميزة منه، لإدارة الاختلاف داخل اللجنة بين أكثر التوجهات السياسية المتطرفة المتبادلة، ونجح في الوصول إلى “وصفة توافقية” متميزة لقانون الانتخاب، لم يتم العمل بها.
مع ذلك، بقي الرجل يعمل بهدوء ضمن إطار “السيستم”، من دون أن يثير جلبة أو لغطاً، بقدر ما يعبّر بحدود مؤدّبة، وخجولة في كثير من الأحيان، عن وجهة نظره تجاه ملفات متعددة!
قيمة المصري تمثّلت في أنّه كان يقوم بدور “الوسيط” أو الصوت العقلاني-المعتدل في الدولة، ويمثّل مفتاحاً أساسياً عندما يتم التفكير في شخصية “تملأ الفراغ”، وتجسد خياراً مقبولاً للدولة والمعارضة، وللمواطنين من مختلف الأوساط الاجتماعية، بالإضافة إلى الحيوية التي أضفاها على دور مجلس الأعيان في التشريعات وتقييم سياسات الدولة، بالرغم من تركيبة المجلس الضعيفة غالباً، والتي لم يكن له دور كبير فيها!
وهنا تحديداً تبرز أهمية المصري، وربما الدلالات التي بدأ البعض يتداولها، لإخراجه من التركيبة الراهنة، بالتزامن مع الاعتقالات في أوساط الحراك، والانتقادات الدولية لتراجع مستوى الحريات العامة؛ فكل ذلك يُقرأ في أوساط سياسية وإعلامية بدرجة كبيرة من القلق، ويطرح هاجساً كبيراً من هيمنة عقلية التصنيف؛ ما بين موالٍ ومعادٍ، مع أو ضد، لكل من يوافق أو يختلف مع السياسات الرسمية، في الإصلاح والاقتصاد!
سواء كان الحديث عن المصري أو غيره من رجال الدولة، أو حتى قوى وشخصيات المعارضة، فإنّ النظام السياسي يكون أقوى وأكثر صلابة في مواجهة التحديات والتهديدات، كلما كانت مرونته وقدرته على إدارة الاختلاف في وجهات النظر داخلياً بسعة صدر واسعة ورحبة، من دون إقصاء أو استبعاد يخلقان أزمات ويطردان أصدقاء ويستعديهم بلا داعٍ أو فائدة حقيقية تذكر!