بـيـن عيـديــن
سنكتفي بإحصاء قتلانا بين عيدي الفطر والأضحى المباركين … سوريا تنزف بمعدل ثلاثة آلاف قتل شهرياً في حروبها الداخلية وحروب الآخرين عليها، ما يجعل خسائرنا هناك، تفوق عن السبعة آلاف قتيل وأضعافهم من الجرحى، وأضعاف أضعافهم من المشردين والنازحين واللاجئين … العراق ينزف بمعدل ألف قتيل شهرياً، بعد أن استيقظت القاعدة على إيقاع الازمة السورية وبفعل تدخلات الجوار العربي والإقليمي، ما يجعل خسائرنا في بلاد الرافدين تربو على الألفي قتيل … ومصر خسرت بضعة آلاف من أبنائها من مدنيين وعسكريين بين قتلى وجرحى في المواجهات التي سبقت ورافقت وأعقبت فض اعتصامي “رابعة” و”النهضة” … ودخل السودان على خط القتل المجاني بعد رفع الدعم عن المشتقات النفطية، دع عنك المواجهات المستمرة في ولاياته المختلفة، وتحديداً دارفور … ولم تبق الجزائر وتونس خارج دائرة الخسارات اليومية بفعل الإرهاب المتفشي في شمال أفريقيا العربية … اما اليمن والصومال فهي جروح نازفة منذ سنوات وعقود، والأرجح أنها ستظل كذلك.
بقليل من الرياضيات “الدامية” يتضح أننا نفقد يومياً ما يربو عن المائة والخمسين قتيلاً في اليوم الواحد، ويرتفع هذا الرقم وفقاً لمقتضيات “العرض والطلب” في الصراع الدائر بين أمراء وملوك الطوائف والمذاهب المحتربة من محيط الوطن إلى خليجه.
ولم يعد كافياً للتعبير عن حجم المأساة التي تُلّمُ بنا من جهاتنا الأربع، أن نكتفي بعبارة “بالنظر للظروف الراهنة، ستختفي مظاهر الزينة والاحتفال بالعيد ويُكتفى بأداء الصلوات” … فالحداد العام يجب أن يعلن على مدار الساعة، وسبعة أيام في الأسبوع، إلى أن يتوقف هذا النزيف القاتل الذي أنهك جسد الأمة وبعثره مزقاً وأشلاء متناثرة.
من ذا الذي يمتلك القدرة على الاحتفال والابتهاج بالأعياد، أية أعياد، فيما ملايين العرب يسامون سوء العذاب يومياً في المهاجر والمنافي، وتحت القصف المتبادل وفي حروب “الإخوة الأعداء” وبفعل الهدايا المسمومة والمفخخة العابرة للحدود، والمصممة للتوسع في إنجاز “فريضة” القتل الجماعي والعشوائي للأبرياء، رجالاً وشيوخاً وأطفالاً ونساء … من الذي سيقوى على الاحتفال والاحتفاء، فيما الأهل والأشقاء يجدون صعوبة في دفن أمواتهم أو التعرف على أشلائهم.
منذ أن تفتحت عيوننا أطفالاً على هذه الدنيا، ونحن نسمع عن نكبة فلسطين، ونعيشها ذُلها اليومي في مخيمات اللجوء والشتات، ونحمل على أكتفانا وفي “وثائقنا الثبوتية” لقب اللاجئ المرادف لقيام إسرائيل و”حرب استقلالها” … اليوم يعيش الوطن العربي من مشرقه إلى مغربة، سلسلة من النكبات، التي لا تقل أي منها عن نكبة فلسطين من حيث الخسائر والتضحيات، ولا يميزها عنها سوى أن “العدو” هذه المرة، يحمل اسمنا ويشترك معنا في الأحساب والأنساب والثقافة واللغة والدين واللون … إنه ابن جلدتنا الذي قرر أن يتحول إلى “سرطان” يفتك بنا ويقضم أحشاءنا.
نستقبل عيداً ونوّدع آخر، على أمل أن نكون في قادمات الأعياد أفضل حالاً من سابقاتها … فإذا بكل عيد يحمل معه قوافل جديدة من الضحايا والمزيد من عمليات القتل والتهجير والتخريب، بالجملة لا بالمفرق، وإذا بحالنا يتردى إلى أسفل درك، ومن دون أن نرى أو نلامس قعر الهاوية التي سقطنا فيها منذ سنوات، وما زلنا نهوي نحوها بتسارع مرعب.
يأتي العيد علينا ونحن في أسوأ حالات التثاقل حتى عن تبادل الرسائل “النصية” عبر جهاز الهاتف النقّال، لكأننا لا نجد ضرورة لذلك ولا نطيق صبراً عليه … لقد حولتنا حروبنا إلى كائنات منهكة تكتفي بإحصاء القتلى والجرحى والتقديرات بشأن أعداد اللاجئين والنازحين … لا وظيفة لنا سوى عدّ أيامنا الأخيرة.
أعجب كيف لنا أن نُسعد أطفالنا الذين ينتظرون العيد بفارغ الصبر والشوق، ونحن الذين فقدنا القدرة على الفرح والابتهاج، ونسينا طقوس العيد … أعجب كيف لفاقد الشيء أن يعطيه … لكننا مع ذلك مستمرون أو بالأحرى، مبرمجون على مزاولة عاداتنا وطقوسنا، حتى وإن فقدت طعمها ونكهتها ورائحتها … مستمرون في أداء رقصات الموت فوق خرائب بيوتنا وأشلاء من نحب … مستمرون في دفع الضرائب الباهظة التي فرضتها عليها أجيال متعاقبة من الطغاة والفاسدين والظلاميين الذين ما كان لهم أن يجثموا على صدورنا إلا بعد أن أحالونا جثثاً هامدة لا حياة فيها ولا حراك، وكل عام وانتم بخير.