أجراس مقلوعة الألسنة!
فيما مضى كان الناس يتساءلون كلما عمّ البلاء عمن يعلق الجرس، ثم جاء زمن قلعت فيه حتى ألسنة الأجراس فأصبحت معدومة الرَّنين، فالحياة اختزلت الى أقل من رغيف ومساحة الحرية أقل من مساحة قبر، رغم كل هذه الثرثرة عن حقوق البشر، لأن الطبعة الآدمية التي أعدتها العولمة هي حيوانية بامتياز، فالإنسان الصغير كما سماه فيلهلم رايتس مخير بين أن يعلن فقره أو يخفيه وبين أن يذبح بسكين مقبضها ذهبي أو سكين أعمى مغطاة بالصدأ، لكن من فضل الجهل على بعض الناس أنه يحجب الحقائق المرة والسوداء ويجعلهم مستغرقين في شجونهم اليومية الصغرى، فلا يموتون الا عندما يموتون بالفعل بعكس الآدمي الحرّ الذي يموت مراراً قبل أن تأزف لحظة موته، لأنه كائن يتخيل، وليس رزمة من ردود الأفعال الغريزية.
وعلى ذكر الجرس الأخرس والمقلوع اللسان، تحضرني عبارة للشاعر الفرنسي هنري ميشو، فقد قال إن من حسن حظ فرنسا أنها استخدمت المقصلة لقطع الرأس بعكس تلك الدول التي تقطع اللسان وتبقي على بنية الجسد، بحيث يتحول الى دودة عملاقة تسعى من أجل القوت فقط!
إن مفارقات عصرنا العجيبة جعلت من يمجدون الحرية ويهتفون باسمها ينكلون بالأحرار، تماماً كما أن من يتغنّون بالعروبة جعلوا العربي أقل من بهيمة لفرط ما تلذذوا بتعذيبه وحصاره.
وكذلك الأمر بالنسبة لفلسطين التي يقول الجميع إنها قضية القضايا كلها بالنسبة اليهم، لكنهم بقدر ما يهتفون لها ينكلون بالفلسطيني الذي أصبح شريداً بين مخيمات ومقابر جماعية.
والأرجح ان هناك سوء تفاهم عميق حول تعريف أبسط البديهيات، بحيث تبدو الحرية لدى الأميّين في أبجديتها مجرد ممارسة الحياة في حدّها الأدنى، فالحرّ تبعاً لهذا القاموس الجديد هو الذي يستطيع أن يختار ما يأكل ويشرب والجنب الذي ينام عليه.
لم تعد هناك أجراس تصلح للتعليق سواء في أعناق القطط أو الثعابين لأن الخرس تحول الى وباء واللسان اقتصرت وظيفته على المَضْغ والانغماس في اللعاب.
قبل عقود قال الكاتب الراحل يوسف إدريس إن الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتباً حراً واحداً، واعتذر منه لأضيف أن هذه الحرية لا تكفي مقالة واحدة إذا قرر كاتبها أن يسمي ثلاثة أشياء فقط بأسمائها الحقيقية!